الفسيفساء الفلسطينية
عادة لا يبدأ الفلسطينيون حديثهم عن القضية الفلسطينية
إلا بعد أحداث عام 1948م، وهو ما رسّخ الفكرة المغلوطة في أذهان العرب والمسلمين
بأن ما قبل هذا العام كان للفلسطينيين دولة مستقلة، أو أن هناك حضارة صنعها العرب
والمسلمون قبل إعلان دولة إسرائيل.
فلسطين هي أرض خارج جزيرة العرب، والقول الفصل
بعروبتها "النقية" أمر ليس بالسهل، وأبلغ تشبيه لهذه الأرض هو لوحة
"الفسيفساء"، فما من دين سماوي أو مذهب أو طائفة وحتى الطقوس اللا
سماوية؛ إلا وكانت فلسطين تحت قبضة أنصار هذه المعتقدات في يوم ما من التاريخ
القديم وحتى اليوم.
كما ومن الصعب أيضاً نفي تاريخ القبائل العربية التي
هاجرت إلى فلسطين ودورهم الذي لم يقل أهمية عن دور قبائل الجزيرة العربية آنذاك، فكانت
رسالتهم واحدة بعد أن توافقوا على نشر الإسلام وحضارته العربية قبل أن يفترقوا
شمالاً وغرباً.
وهنا لست بصدد إثبات عروبة فلسطين، فالمسألة أصبحت
نسبية تختلف من شخص إلى آخر وفق تعدد المفاهيم والمصطلحات لمكونات الهوية العربية
وثوابتها؛ ففي حين وجود من يراها لغوية، فهناك من يراها عرقية. كما أن الهوية
الوطنية الحديثة صهرت مكونات الهوية وثوابتها بإسم الوطن.
.................
تدفقت القبائل العربية إلى فلسطين عبر مرحلتين: الأولى
بعد الفتح "العمري"، حيث استوطن العرب بالقرب من ساحل فلسطين الشمالي،
وكانت أقرب نقطة لهم هي مدينة حيفا وضواحيها، بينما كانت الثانية مع الفتح "الأيوبي"،
وأقرب نقطة لهم هي مدينة الخليل لقربها من جنوب فلسطين والأردن ومصر.
مارس عرب فلسطين حياتهم الطبيعية بعد الفتح الإسلامي
وفق نصوص "الوثيقة العمرية"، وكان موقفهم السياسي مرتبطاً بالجزيرة
العربية وقبائلها، وظهر ذلك بتضامنهم مع الخليفة الأموي معاوية بن أبي سفيان وخروجهم
للقتال معه في "صفين".
كما استطاع الخليفة الأموي الوليد بن عبدالملك القضاء
على فتنة "الجراجمة"، وهم بقايا الأرمن والفرس الذين وجهتهم دولة الروم
لزعزعة ولاء القبائل العربية في فلسطين ضد الدولة الأموية بعد أحداث عبد الله بن الزبير
في مكة المكرمة.
بينما لم تحظ فلسطين بالأهمية الدينية في العهد
العباسي، أو لم يضعها العباسيون على رأس أولوياتهم، وذلك لشكهم في ولاء عرب فلسطين
للخلافة الأموية وليس العباسية التي غرست الأعاجم في قياداتها العسكرية. وهنا يمكن
القول؛ بأن ثورة "أبو حرب تميم اللخمي اليماني" عام 841م، في شمال
فلسطين والجولان حيث تستوطن القبائل اليمنية "القيسية"، هي أول ثورة
عربية لإعادة تصحيح مسار الوجود العربي وفق النهج الأموي في فلسطين، ولكنها فشلت
بعد مرور عام واحد فقط.
ثم قامت ثورة الشيخ "عيسى بن الشيخ بن السليل الشيباني"
عام 896م، بعد أن استوطن الأفارقة في فلسطين لدعم دولة "الطولونيون"، حيث
استطاع تأسيس دولة عربية على ساحل فلسطين منفصلة عن حكم الأعاجم لمدة عامين، ولكنه
قُتل على يد "أماجور التركي".
وبعد تأسيس الفاطميين لـ "دار العلم
الفاطمية" عام 1004م، أصبح المذهب الشيعي هو المذهب الرسمي لأكثر من 770 عام،
وخاصة في الوسط الفلسطيني "الضفة الغربية" في مدينتي القدس ونابلس، حيث
وصفها الرحالة "ناصر خسرو" عام 1045م، قائلاً: (إن عدد سكان القدس نحو 20 ألفاً؛ جُلهم
من الشيعة)، وقال "ابن جبير": (وللشيعة في فلسطين أمور عجيبة، وهم أكثر من
أهل السنة، وقد عمّوا البلاد بمذاهبهم، وهم فرق شتّى منهم الرافضة والأمامية والإسماعيلية
والزيدية والنصيرية). وبذلك أصبحت فلسطين هي البيئة الخصبة والأفضل لإستيطان
الصليبيين التي دخلوها عام 1096م.
كما أن صلاح الدين الأيوبي لم يثق بولاء القبائل
العربية التي هاجرت من الجزيرة العربية لمساندته في معركة التحرير، فأسكن القبائل
الكردية في مدينة الخليل لمنع سقوطها تحت الزعامة العربية، وبعد سنوات من المنافسة
على السيادة، وقعت مذبحة "السلطان قايتباي" المملوكي عام 1473م، التي انتصر
فيها الحلف العربي التميمي على الحلف الأيوبي الكردي، فهرب الأكراد إلى مدن الوسط
الفلسطيني وهي "نابلس، اللد، القدس، خان يونس" التي كانت تخضع للشيعة
آنذاك.
ثم وقعت معارك عنيفة بين الأتراك وشيعة القدس ونابلس
لأكثر من عشر سنوات؛ انتهت بهزيمة الشيعة وهروبهم إلى جنوب لبنان ودمشق عام 1780م،
ويُروى أن حرق كتب الشيعة في أفران مدينة عكا استغرق أكثر من أسبوع لكثرتها.
إن أخطر ما يتجاهله الفلسطينيون من تاريخهم المعاصر هو
الحديث عن أول دولة عربية قامت في فلسطين ما بين (1737 إلى 1775)م، على يد القائد
العربي "ظاهر العمر الزيداني" الذي هاجر أجداده من مدينة "الطائف"
السعودية للمشاركة في تحرير فلسطين من الصليبيين، ويبدو أن سبب تجاهل الفلسطينيين يرجع
إلى أن الدولة الزيدانية لم تشمل المدن الفلسطينية الخاضعة لسيطرة العجم والشيعة، وخاصة
القدس ونابلس.
بل كانت مدينة حيفا الساحلية هي عاصمة دولته العربية
في فلسطين لقربها من مواطن القبائل العربية، وكانت حدود هذه الدولة تنطلق من
الشمال الفلسطيني والأردني إلى الجولان ودمشق وصيدا.
كما اتسمت الدولة العربية الزيدانية بالتطور السريع؛
فقد نشطت حركة التجارة مع الأوربيين بعد إعادة تأهيل موانئ الساحل الفلسطيني
ومكافحة القراصنة المالطيين، وما يجب أن يشهد له التاريخ العربي بكل فخر هو أن
موازنة الدولة الفلسطينية كانت من المال الخاص لعائلة الزيداني التي عرفت بثرائها
المبارك، وهي سابقة لم يسجلها التاريخ ولن يشهد مثلها.
وبعد سقوط الدولة العربية الزيدانية، بدأت السطات
العثمانية بإتخاذ التدابير اللازمة، وهي بمثابة الحرب القاضية على ديموغرافية أهم مواطن
القبائل العربية في فلسطين، ومن أهم هذه التدابير:
1. تسمية المناطق الخاضعة لسيطرة الأكراد بـ "المدن"
ووصف سكانها بـ"المدنيين" أو المتحضرين، وتسمية المناطق التي يستوطنها
العرب بـ "القرى" ووصف العرب بـ"الفلاحيين"، وضخ الأموال في
المدن المتحضرة لتقوية "الإقتصاد الكردي"، مع اهمال القرى والفلاحيين.
2. حكر منصب مفتي القدس على العلماء الأكراد
بعد تعيين الشيخ "إبراهيم بن الهدمة الكردي" المملوكي.
3. اعتماد التعليم الديني الصوفي، وتأسيس مدرسة
صلاح الدين الأيوبي الصوفية والمدرسة الجاولية الصوفية في القدس.
4. نشر الخرافات الصوفية التي جعلت أبناء
العرب ينقادون للعجم خوفاً من كراماتهم وقدراتهم الروحانية بعد أن انتشر الجهل بين
العرب.
5. حذف أسماء القبائل وإبدالها بأسماء المهن
والحرف كفلان النجار والعطار والحلواني، أو بصفة يتميز بها بالأعرج والأعور
والأطرش.
وبذلك تغيرت كافة المفاهيم الإجتماعية، فلم يعد العربي يدرك حقيقة عروبته التي حارب من أجلها أجداده عشرات القرون لترسيخ دولة عربية حول نهر الأردن مرتبطة بجزيرة العرب؛ بل أصبح فلاحاً لا يتجاوز فهمه غير الخضوع لكرامات الأولياء الأتراك، ويعمل بشقاء عند الأثرياء "الباشوات" العجم أصحاب "الطرابيش" الحُمر.
وما هو جدير بتوضيحه هنا أن بعضاً من أبناء العرب
والعجم أخذوا ينسبون أنفسهم للصحابة وآل البيت زوراً من أجل التقرب للسلاطين العجم
الذين يدّعون حبهم للحسن والحسين.
وأيضاً من التدابير الخاصة بمدينة حيفا العربية التي
أرهقت كافة دول العجم في فلسطين، هي فتح ميناء مدينة حيفا لكل المهاجرين
الأوروبيين واليهود، وجعلها المحطة الرسمية للديانة البهائية "الفارسية"
والقاديانية "الهندية" دون حرب أو قتال، على النحو التالي:
1. توطين اليهود الشرقيين
"الشيوعيين" عام 1837م، ثم توطين الألمان "النازيين" عام
1868م لإعادة بناء مدينة جديدة في حيفا وفق الطراز الأوروبي لمحو البنية التحتية
التي أسس قواعدها القائد العربي الزيداني.
2. توطين الديانة البهائية بعد أن وافقت
تركيا على نفي "بهاء الله" إلى مدينة حيفا بطلب من إيران عام 1868م،
والذي أصبح قبره قبلة بهائيي العالم.
3. توطين مسيحيي سوريا ولبنان الذين هاجروا
بكثافة إلى حيفا للعمل في التجارة مع اليهود والألمان، وكان لهم الدور الأكبر في
نشر الأفكار الشيوعية بين الشباب العربي في حيفا، كما أخذ العجم في القدس ونابلس
يميلون إلى الأفكار النازية التي سوف تحفظ لهم عرقيتهم من الإختلاط العربي.
وكان مفتي القدس الحاج "أمين الحسيني" قد تورط في تجنيد الشباب الفلسطيني للحرب مع الألمان بعد تنسيقه السري مع الإمام "حسن البنا"، ثم عمل على توطين الديانة القاديانية "الهندية" في مدينة حيفا، حيث أن وجه مفتي القدس دعوة رسمية لزعيم القاديانية الهندي لشرب فنجان الشاي في القدس عام 1924م بعد قبوله نشر الدعوة القاديانية في مدينة حيفا، وذلك بعد أن طرد أهل دمشق زعيم القاديانية وكادوا أن يقتلوه.
ولابد هنا من رسم صورة واضحة لفلسطين
"الإجتماعية" قبل الحديث عن الدخول البريطاني الذي بدأ عام 1917م، وهي
الصورة التي يتجاهلها الفلسطينيون خوفاً من التاريخ الذي لا يرحم، فقد كان
الفلسطينيون قلباً واحداً مع الألمان النازيين واليهود الشيوعيين قبل إعلان دولة
إسرائيل عام 1948م.
فمدينة حيفا ما بعد عام 1882م لم تكن مدينة عربية
بشكلها ومضمونها؛ فالبنية التحتية ألمانية ولوحات المحلات التجارية كانت بلغات
أجنبية وليست عربية، كما انتشرت المطاعم والحانات والمقاهي والنوادي المملوكة للمسيحيين
القادمين من سوريا ولبنان، وهي المقاهي التي انطلق منها الحزب الشيوعي الفلسطيني
عام 1919م، وهو الحزب الذي ما زالت أيدولوجيته تسيطر على منهجية منظمة التحرير
الفلسطينية حتى وقتنا الحاضر.
لقد كان الحزب الشيوعي الفلسطيني نواة توافق
الفلسطينيين واليهود على بناء دولة قومية واحدة تجمع الديانتين المسيحية واليهودية
مع الفلسطينيين فقط، وليس للعرب والمسلمين حقوق في فلسطين كما هو لليهود
والمسيحيين، بل كان للشيوعيين الفلسطينيين دور كبير في منع الفلاحين العرب من
مشاركة جيش الإنقاذ العربي عام 1948م.
الحقيقة أن مشكلة الفلسطينيين لم تكن مع "وعد
بلفور" وإقامة دولة إسرائيل في فلسطين، فكما اتضح مما سبق بأن وجود اليهود
كان ذات فائدة للفلاحين العرب الذين وجدوا ضالتهم في مزارع اليهود المتطورة بعد أن
أهمل العجم الزراعة في فلسطين طوال القرون الماضية.
بل كان حقيقة الخلاف بين الفلسطينيين والبريطانيين هو
أن إقامة دولة لإسرائيل قضى على حلم إقامة دولة مسيحية عربية في شمال وساحل فلسطين
يقودها الحزب الشيوعي الفلسطيني، والذي أسسه مسيحيو سوريا ولبنان، كما أن سيطرة
اليهود على القدس كان بمثابة القضاء على حلم جميع الأعاجم بأن يكون لهم جزء من
المقدسات الإسلامية تخضع لسيطرتهم الدينية، ولو لم تكن إسرائيل على أرض الواقع؛
لكان للعجم دولة في فلسطين يقودها الأكراد بإسم فلسطين العربية.
لذلك رفض أهل القدس ونابلس والخليل حكم الهاشميين في
الأردن، بل عملوا على نزع الضفة الغربية من الحكم الهاشمي قبل تحريرها، وهو ما
أكدته القيادات الفلسطينية أن حرب الفلسطينيين ليست مع اليهود، بل مع الرجعية الإسلامية
في الدول العربية.
ومن الضروري أيضاً الحديث عن المحاولة الأخيرة لتأسيس
دولة عربية في فلسطين، حيث ورد في مذكرات الشيخ "محمد عز الدين القسام"
بأنه درس التركيبة السكانية الفلسطينية بعد وصوله إلى فلسطين، وكانت ضواحي حيفا هي
محطته الأولى التي ما زالت تستوطنها القبائل العربية، وبدأ بإعادة تأهيلهم الفكري
بسبب الجهل الذي لحق بهم، حيث يروى أنه أعاد لهم شرح أصول الطهارة والوضوء بعيداً
عن البدع ومنكرات العجم. قامت ثورته الأولى عام 1935م، ثم ثورة أنصاره في حيفا
1936م بعد مقتل "القسام"، وتم سحق كلا الثورتين بسبب تغلغل الشيوعيين
بين الفلاحين العرب وسماسرة الأراضي، وما هو جدير بتوضيحه أن رفض مفتي القدس دعم
الثورة العربية "القسامية" كان دلالة واضحة بأن العجم الأكراد في مدينتي
القدس ونابلس لن يقبلوا في يوم ما الوجود العربي على أرض فلسطين.
حيث يروي الباحث الفلسطيني محمد عقل بأن التاريخ
الفلسطيني أهمل جميع المقاتلين في الثورة القسامية، والذي اضطره لتدوين جميع
الأسماء العربية في كتاب "سجل المحكومين في عهد الإنتداب البريطاني"، غير
أن جميع الفصائل الفلسطينية وعلى رأسهم السلطة الفلسطينية لم يشملوا أبناء وأحفاد
هؤلاء المقاتلين في أجندتهم الوطنية، ربما لأنهم فقط من قحاح العرب وليسوا من
أحفاد العجم والشيوعيين.
.................
والحقيقة هي أن أرض فلسطين هي كرقعة "الفسيفساء"، وكل قطعة في هذه اللوحة تُمثل شريحة معينة حكمت فلسطين لا تمت بصلة لبقية الأطياف الذين حكموها من قبل أو بعد، وأرض فلسطين لا يحكمها إلا الأقوياء والمنتصرين ولا مكان فيها للمنهزمين والضعفاء.
ولمن يريد إقامة دولة فلسطينية على هذه الأرض عليه أن يكون واضحاً في تحديد مطلبه ونوع القطعة الفسيفسائية التي يريد أن ينطلق منها لإقامة الدولة الفلسطينية، أما القول بأن فلسطين للفلسطينيين غير واقعي وتضليل للحقائق، فهذه الأرض لم تشهد لحظة توافق بين العرب والعجم منذ أن التقيا أول مرة في العهد العباسي وحتى يومنا هذا.
تعليقات
إرسال تعليق