الشؤم الفلسطيني

لم يكن المجتمع الفلسطيني، حين صدر وعد بلفور عام 1917، بالصورة التي رسمها الإعلام العربي، وربما المسلسل السوري الشهير، التغريبة الفلسطينية، هو أكثر من ساهم في تصوير الشخصية الفلسطينية بالفّلاح الفقير المرتدي للثوب العربي والمتزين بالعقال التقليدي.

الفلسطينيون كالفسيفساء المتعددة بالأعراق والألوان والأديان، منهم العرب، وفيهم الفرس والترك والهنود والأفارقة. ووفق رواية المؤرخ العراقي الأمريكي (متي موسى)، أن فلسطين أثناء استقرار الحكم التركي توافد إليها أوروبيون من اليونان وروسيا وصربيا وبلغاريا ورومانيا وإنجلترا وفرنسا وإيطاليا وإسبانيا وألمانيا.

إن اختزال القضية الفلسطينية بالمشهد العربي فقط، سياسياً وإعلامياً وفنياً، كان مدعاة لجلد الكثير من العرب لذاتهم القومية، لإعتقاد مغلوط ترسخ في عقولهم عبر التعليم "المخترق"، الديني والأكاديمي، أن فلسطين سقطت بسبب ضعف وتخاذل الشخصية العربية.

مضمون وعد بلفور:

الكثير من قرارات رئيس وزراء بريطانيا آرثر بلفور السياسية انطلقت من المحورين الديني والعرقي؛ فكتاب العهد القديم هو الذي أوحى له بتوطين اليهود في فلسطين. وعلى الرغم من التوصيات الدينية، إلا أنه كان ضد كل من يقف ضد بلاده البريطانية العظمى في جولاتها العابرة للقارات.

بلفور الذي خشي من هجرة اليهود الشرقيين الشيوعيين إلى بريطانيا، حرص على توطينهم في فلسطين، وهي الورقة التي غازل بها يهود بريطانيا وأمريكا للوقوف مع بلاده في حروبها العالمية.

ولم تتضمن رسالته كلمة "دولة يهودية"، بل تحدث عن وطن يضم اليهود في فلسطين، شريطة عدم المس بحقوق الفلسطينيين المدنية والدينية.

إن حصر العقل العربي بنظرية المؤامرة ضد الإسلام بتفسيره لفلسفة وعد بلفور، كان سبباً لجهلنا بما قدمته القيادات الفلسطينية لشعبها خلال الفترة الزمنية ما بين وعد بلفور، إلى حين قيام دولة إسرائيل عام 1948، والتي تقارب الـ 31 عاماً.

احتضان الفلسطينيين لليهود:

لحظة دخول اليهود الشرقيين إلى فلسطين، حينها كان الكثير منهم متأثراً بالفكر الشيوعي الإلحادي، وكانت الإيدولوجية الفلسطينية حينها مشبعة بمنهجين متناقضين.

المنهج الأول كان قومياً عربياً أسّسه مسيحيو حيفا، والثاني كان أشبه بالكهنوتية المقدسية التي قادها رجالات الدين الأتراك في القدس. أما قحاح العرب، فهم الفلاحون الفقراء الذين كانوا يعيشون في القرى الصغيرة.

طاب لليهود الشيوعيين العيش في حيفا بالقرب من القوميين، حيث بيئتهم الخصبة، بينما لم يعارض رجالات الدين الأتراك احتضان اليهود المتدينيين في القدس، كما فعل إمامهم الحاج أمين الحسيني، الذي استقبل زعيم الطائفة البهائية الإيرانية عام 1924 لتوطينهم في فلسطين بأمر من السلطان التركي لترضية حاكم إيران حينذاك.

شراكة اليهود مع الفلسطينيين:

على الرغم من إختلاف الإيدلوجيتين، القومية الحيفاوية والكهنوتية المقدسية، إلا أنهما توافقتا على المشي قدماً للعمل ضد بريطانيا، ليس لرفضهم توطين اليهود في فلسطين، بل لرفض القوميين بعد شراكتهم مع اليهود الشيوعيين تأسيس دولة معادية للفكر الشيوعي، سواء كانت عربية أو يهودية.

وكذلك المقدسيون، الذين جعلوا مدينة القدس محطة ألمانية ضد بريطانيا ومصالحها في الشرق الأوسط العربي تلك الفترة، من خلال تجنيد الفلاحين الفقراء للحرب في صفوف الجيش التركي والألماني.

ثورة الفلاحين العرب 1936:

هي الثورة الأجدر بوصفها الأولى والأخيرة التي تصدت لوعد بلفور، مؤسس هذه الثورة هو الشيخ عز الدين القسام، سوري الأصل وليس فلسطيني، وبعد دراسته للمجتمع الفلسطيني بأعراقه وطوائفه، وقع اختياره على الأسر العربية المقيمة في جنوب حيفا، الذين كانوا يسمون أنفسهم بالحجازيين واليمنيين والمصريين وليس بالفلسطينيين.

حاول الشيوعيون خطف الثورة من الفلاحين العرب، من خلال الضغط الذي مارسه زعماء العائلات المقدسية على أحد أبرز رجالات الثورة القائد محمد عبد الرحيم الحاج بعد رفضه الشراكة مع الشيوعي طاهر القبّج.

كما ويمكن تسمية هذه الثورة بـ "ثورة الجواسيس"، التي انتهت بتسليم جميع قادتها وأفرادها للجيش البريطاني عبر الجواسيس الفلسطينيين. وبعدها، انغمس أبناء الفلاحون العرب في الشيوعية، لإسترداد حقوقهم من الأثرياء الفلسطينيين المرتبطين بالدولة التركية.

ومن هنا بدأ الاعلام العربي بتسليط الضوء على هذه الفئة فقط، حتى يومنا هذا، من خلال رسم صورة المناضل الفلسطيني ذات التوجه اليساري بالزي العربي والمتزين بالعقال التقليدي، على الرغم أن الأقلية العربية في فلسطين هم ضحايا الشيوعية الحيفاوية والإسلام السياسي المقدسي.

التفاهمات الفلسطينية البريطانية:

لا يمكن تبرئة الإدارة البريطانية من تحيزها لليهود آنذاك، ولكنه لم يكن تحيزاً مطلقاً، ولم يكن بلفور كارهاً للفلسطينيين، وفق الرواية الضيقة، حيث كان العرب أقرب له من الأفارقة والآسيويين، بل أن الفلسطينيين كانوا أقرب له من اليهود الشيوعيين.

بسطت بريطانيا بعض التفاهمات على الساحة الفلسطينية، استمرت 31 عاماً ما بين إصدار وعد بلفور وتنفيذه، كانت كفيلة لمنح الفلسطينيين الكثير والكثير، ولكن المعوقات الفلسطينية كانت أكثر وأكبر حجماً من التفاهمات البريطانية.

التفاهمات البريطانية كان محتواها تحالفات سياسية بين الإنجليز واليهود والفلسطينيين لفرضها أمام القوانين الدولية، بينما كانت المعوقات الفلسطينية أشبه بالتحالفات الفكرية لتعطيل القوانين الدولية بما يخدم الشيوعية والنازية.

وهو السبب الرئيسي لعدم التوافق بين وفد الأمم المتحدة الذي أرسلته بريطانيا للتفاهم مع القيادات الفلسطينية قبل قرار التقسيم، الذي التقى بالقيادي مفيد النشاشيبي في منزل القيادي خليل البديري، حتى الثالثة فجراً، وكلاهما شيوعيان.

فلسفة الشؤم الفلسطينية:

على الرغم من التناقض في الإيدلوجيات الفكرية بين الفلسطينيين، إلا أنهم توافقوا جميعاً على تأسيس عصبة التحرر الوطني، لتكون نواة منظمة التحرير الفلسطينية، وهي التي انبثقت منها جميع الفصائل الفلسطينية.

ولتلخيص ما فعله الفلسطينيون خلال الـ 31 عاماً، ما بين إصدار وعد بلفور وتنفيذه، يمكن تسليط الضوء على خطاب القيادي الفلسطيني توفيق طوبي، الذي وقف على منصة الكنيست الإسرائيلي في إجتماعه الأول عام 1948 مخاطباً الإسرائيليين بإسم عصبة التحرر الوطني الفلسطيني.

والذي لم يستعطفهم لجانب الفلسطينيين، ولم يطالبهم بتنفيذ شروط وعد بلفور الذي طالب اليهود بعدم التعرض لحقوق الفلسطينيين، بل حثهم على دعم الجيش الإسرائيلي للقضاء على الجيوش العربية ومحاربة الرجعية العربية، بل واتهم النواب اليهود بخيانة دولة إسرائيل إذا لم يفعلوا.

توفيق طوبي، ليس شخصاً مستقلاً بفكره، بل هو أحد أبرز مؤسسي عصبة التحرر الوطني، والذي كرمه الرئيس الأسبق ياسر عرفات في حفل تكريم خاص تقديراً لدوره في تطوير نهج منظمة التحرير الفلسطينية.

فما قدمته القيادات الفلسطينية لشعبها خلال الـ 31 عاماً، يمكن فهمه من خلال المقارنة بين وعد بلفور الذي عادة ما يصفه الفلسطينيون بالمشؤوم، وخطاب توفيق طوبي أمام الكنيست الإسرائيلي، ليفهم الفلسطينيون جيداً أن بلفور لم يكن متشائماً من الفلسطينين، ولكن القيادات الفلسطينية أحاطت الشعب الفلسطيني بهالة من التشاؤم حول العرب من حولهم ومن ثقافتهم القبلية والدينية، وهم سبب ضياع فرصة دامت 31 عاماً منحها بلفور للتفاوض مع الشعب الفلسطيني.

وليس ما يتشدق به الإسلام السياسي، من خلال مقارنة وعد بلفور بمحادثات السلطان التركي عبدالحميد الثاني مع اليهود، الذي كان تمويهاً للكثير من الأخطاء التي أرتكبتها عصبة التحرر الوطني الفلسطيني، والتي بدورها ألصقتها بالشخصية العربية وألصقتها بالفكر الشيوعي والإسلام السياسي.

بلفور كانت رسالته واضحة، ولكن القيادات الفلسطينية أخفت فهمها المرهون بالتوازنات الدولية؛ فوعد بلفور لم يكن قيد التنفيذ المباشر، بل تماطل الإنجليز في تنفيذه 31 عاماً إلى حين انتهاء الحرب العالمية الثانية بإنتصار بريطانيا التي كافأت حلفاءها وعاقبت من تآمر ضدها.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

جراجمة القدس

الفسيفساء الفلسطينية