الأحواز العربية على موازين بوصلة العقد الجديد

إن قيام الدول وسقوطها ليس بلحظة قرار يصدر للتنفيذ المباشر، فما حدث مع الإتحاد السوفييتي كان بعد مجموعة من التراكمات السياسية وغيرها. وقد تسقط أو تنشأ دول أخرى بعد توفر الظروف المواتية لإعلان نهاية دولة قائمة بأركانها المُتكاملة كالأحواز العربية، أو بداية عهد جديد لدولة ناشئة لم تكن من قبل كإسرائيل.
وعلى الرغم من إختلاف الحالة الأحوازية عن الإسرائيلية، إلا أنهما وقعتا تحت نفس الظرف، وهو أن إنشغال العالم بالحربين العالميتين الأولى والثانية كانت فرصة لإقتناص الأرض في لحظة إعادة ترسيم الحدود على المستوى العالمي من أجل تقنينها قبل الإنتقال لمنظومة قوانين دولية جديدة تَجُب ما قبلها من آثام الإحتلال والسلب غير المشروع. ولكن هذا لا يعني الوقوف حداداً على أبواب مجلس الأمن الدولي، والمطلوب هو متابعة التجاذبات المُتضادة على المستوى العالمي لترجمتها على شكل إستراتيجيات ذات فائدة للأمن القومي العربي.
ووفق إشارة "بوصلة العقد الجديد" التي أخذت تتوجه نحو تكوين كيانات سياسية جديدة عبر الدعوات الإنفصالية التي أخذت تنتشر مؤخراً بعد محاولات وإصرار مجموعة "بريكس" الذي تقوده روسيا على تقويض سلطة النظام العالمي "أحادي القطب"، وتفعيل نظام عالمي جديد "متعدد الأقطاب"، ورفع صوت دول الجنوب في العالم، وذلك بالتعاون مع الصين والهند في آسيا، وجنوب إفريقيا على مستوى القارة الإفريقية، بينما البرازيل في القارة اللاتينية.
ومن أهم أبجديات بريكس هو توفير وسائل مبتكرة لسحب بساط السيطرة التي اكتسبتها واشنطن بعد الحرب العالمية الثانية من خلال الدعم الإقتصادي وتسهيل القروض للدول الفقيرة أو الصغيرة دون فرض شروط سياسية كما تفعل أمريكا وأوروبا مع دول الجنوب العالمي. وتنظر مجموعة بريكس للقارة الإفريقية على أنها محطتها الأفضل نظراً لجهود الحزب الحاكم في جنوب إفريقيا الذي يُعتبر الأقرب للروس من بقية حلفاء بريكس، والأكثر حراكاً على الساحة الإفريقية لإستقطاب أكبر عدد ممكن من الدول الإفريقية لصالح تطلعات بريكس نحو العالمية الجديدة.
وما يُلزمنا لفهم آلية عمل الدعوات الإنفصالية هو ضرورة النظر إلى مشروعين إنفصاليين، وهما جنوب السودان وجنوب المغرب. والفرق بين النموذجين هو أن حركة تحرير جنوب السودان كانت ليبرالية النزعة، ومرنة في مشروعها التحرري القائم على ثقل مواردها الطبيعية الذي استقطب دعم الروس والأمريكان على أمل الفوز بجزء من هذه الثروات، بينما انطلق المشروع التحرري لجبهة البوليساريو من مفاهيم اليسارية الإفريقية دون ربطه بالموارد الطبيعية، مما جعله على قائمة الإنتظار التحرري دون حتى إكتراث الروس لهويتهم اليسارية الفاقدة لمشروع التحرر الإقتصادي.
والشاهد هنا.. أن التجربة التي خاضتها كلٌ من السودان والمغرب تحمل الكثير من الدلالات الهامة، وأهمها هو إمكانية إعادة صياغة بعض الحدود الدولية المُضطربة وفق المنظور الإقتصادي أكثر منه السياسي. وبعبارة أخرى أن الملفات الإنفصالية وفق المنظور الجديد يجب أن ينطلق محورها السياسي من مفاهيم حقوق الإنسان الحديثة في حق تقرير المصير الذي أخذ يرتبط أيضاً بالبرامج الإقتصادية ومدى نفعها على شركاء الإنفصال أو التحرير.
وعودة للقضية الأحوازية.. فجوهر المشكلة وعمقها يكمن في النظرة العربية للأحواز التي لم تتغير منذ إحتلالها عام 1925، على أنها عقدة سياسية مرهونة بالقوة الإيرانية، وأن تحرير الأحواز لن يكون إلا بدخول القوات الأمريكية لتخوض حرباً عالمية ثالثة تنتهي بتدمير المنطقة العربية، وخاصة دول الخليج العربي.
وهذه النظرة ليست إلا من نسج الخيال الفارسي الذي تغلغل العقول العربية في ظل غياب مراكز البحث العلمي التي من مهمتها مراقبة كافة التجاذبات السياسية بين الحين والآخر، أي في كل عقد (عشر سنوات) لإستكشاف المعطيات الجديدة وترجمتها على شكل إستراتيجيات تضع العرب على رأس كل مرحلة بالأولوية لحظة مخاضها.  
إن قضية الاحواز ليست عقدة سياسية بقدر ما هي رهينة الجمود الفكري في التناول والطرح. كما أن الأحواز غير مرهون بالقوة الإيرانية بقدر ما هو أن موقعه الجغرافي الغني بالثروات الطبيعية هو القوة الأكثر تأثيراً التي سوف تتغلب على الإحتلال إن فهمنا وأحسنّا قراءة المواقف في لحظتها.
وما يجب فهمه بالضرورة.. أن ملامح الحرب العالمية الثالثة بدأتها روسيا على ساحة غير عسكرية تعمل وفق نظام قوة الجذب السياسي للدول التي ترغب بالتطور بعيداً عن القروض الغربية المشروطة. حيث لم يعد الأمر يتطلب أن تكون شيوعياً أو يسارياً للتحالف مع مجموعة بريكس بقدر ما أن تكون صاحب ثروة طبيعية تعمل روسيا وحلفاؤها على حمايتها من الهيمنة الغربية.
كما أن توجه "بوصلة العقد الجديد" نحو الدعوات الإنفصالية أو التحررية على المستوى العالمي والعربي أيضاً هو أمر مُلزم للبحث عن شركاء جدد؛ فالتوجه الأمريكي نحو دعم بعض هذه الحركات في المنطقة العربية ليس إلا لإعادة التوازن بين الغرب ومجموعة بريكس التي أخذت تخترق بعض دول الشرق الأوسط. فظهور دولة للأكراد لقطع الإختراق الروسي بين العراق وسوريا، ودولة الجنوب العربي لتقابل البقاء الحوثي في اليمن الشمالي، غير إرغام قطاع غزة على البقاء مع السلطة الفلسطينية خشية سقوطه بين حلفاء بريكس.
ولقولي خلاصة.. أن "بوصلة العقد الجديد" ما زالت حديثة النشأة عالمياً، فبعد فشل محاولات عسكرتها على الساحة العربية، انتقلت إلى محاولات دعم مشاريع الإنفصال والتحرر، والأمر يعود إلى محاولات الإمتداد الروسي ومجموعة "بريكس" إلى المنطقة العربية. وربما قريباً تبدأ ردة الفعل الشرقية في تهييج الأقليات الشيعية نحو المطالبة بالإنفصال عن العرب.
وما هو المطلوب عربياً ولكبح الأطراف المُتصارعة توسيع الساحة بغير الطرق العسكرية من خلال طرح القضية الأحوازية على الطاولة الأممية العالمية عبر مجموعة من الملفات المُحكمة والمُتكاملة قانونياً وسياسياً وإقتصادياً، لتكون البداية الصحيحة والجاذبة للقوى الإقتصادية المُرتدية لثوب السياسة وحقوق الإنسان. وليس من الغريب القول بأن البريطانيين الذين ساندوا الإيرانيين في إحتلال الأحواز، والروس الذين ما زالوا يدافعون عن إيران هم أول من سيُطالب بحقوق الأحوازيين، وذلك شريطة أن نفهم كيفية صياغة الملف الأحوازي بعد مرور أكثر من تسعين عاماً على إحتلاله.. انتهى/بلال الصبّاح/27اكتوبر2017.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

جراجمة القدس

الفسيفساء الفلسطينية

الشؤم الفلسطيني