الحقيقة المجهولة في الأزمة السعودية مع كندا

ما هو معروف لدى العرب عن دولة كندا أن سياساتها الخارجية تتميز بالحيادية، ويراها البعض كالطفل البرئ الذي احتضن جميع الأعراق والألوان، ومن منّا لم يُصفق لرئيس الوزراء الكندي وهو يستقبل اللاجئين ويحتضن المسلمين المهاجرين إلى بلاده.
كما يعتقد البعض بأن مبادئ حقوق الإنسان لديها من القداسة عند الكنديين كما هو للقرآن الكريم عند العرب والمسلمين، وهو ما يدعونا لقراءة الأزمة الكندية-السعودية وفق أبعاد علم الإجتماع، حيث الحقيقة المخفية التي تكمن فيه، والتي كانت سبباً في الردع السعودي للدولة الكندية، والضرب بيد من حديد ضد مشروع إجتماعي غير ظاهر للعامة تقوده كندا على المستوى العالمي.
......................
أشبه ما تكون كندا بأنها ولاية أمريكية من حيث منظومتها الإجتماعية القائمة على مفهوم (التعددية الثقافية) الذي يكفل حماية خصوصية ثقافات الجاليات المُهاجرة. ولكن بعد عام 2013 أعربت كل من المانيا، بريطانيا، أستراليا، فرنسا وكندا رفضهم لهذه السياسة المُتبعة في أمريكا، حيث شكّك رئيس وزراء بريطانيا "ديفيد كاميرون" ورئيس فرنسا "نيكولا ساركوزي" بتلك السياسة خوفاً من الإرهاب الداخلي الناتج من إرتباط المهاجرين بالثقافة العربية والإسلامية. وكان البديل المطروح هو دمج المهاجرين بثقافة واحدة، والتي تُعرف بمرحلة (ذوبان الهوية) أي التخلي عن ثقافتهم الإسلامية وهويتهم العربية على المدى البعيد.
ويُمكن القول بأن السبب الحقيقي الذي جعل كندا أول من يتوجه لمرحلة (التداخل بين الثقافات) هو فشل الحكومات الكندية في توحيد شعبها على لغة واحدة، وهي المُعضلة الكبيرة بأن لكل مدينة كندية لغة تختلف فيها عن الأخرى. وبعد أن أدرك "الحزب الديموقراطي الجديد" في كندا هذا المؤشر الخطير، أقرت جمعيته الفيدرالية القوانين الأساسية يوم 13 إبريل 2013 لدمج جميع الثقافات المُهاجرة لكندا في ثقافة واحدة، لتكوين البناء الإجتماعي الجديد ثم التوجه نحو الهوية الدولية المشتركة وفق المنظور الكندي.
بعض من علماء الإجتماع يرفضون ما توجهت إليه كندا، وخاصة بعد نجاح التعددية في أمريكا وجنوب إفريقيا، وأنه لا يُمكن دمج الأفراد في هوية واحدة بعد تعريف هوياتهم الخاصة بهم.
وبذلك يُمكن القول بأن دولة كندا رسمت مشروعها القومي الحديث عام 2013 وفق النسيج الإجتماعي الجديد، وأفضل ما يُمكن تعريفه للهوية الكندية الجديدة هو أنها قائمة على التخلي عن الهوية الأصلية المُكونة من الدين والثقافة والتقاليد خوفاً من إنهيار الدولة الكندية بسبب التعدد اللغوي والثقافي والديني.
وقد يكون هذا الأمر مقبولاً لمن أراد أن يُهاجر إلى كندا والعيش في ظل قوانينها، ولكن تكمن الخطورة الحقيقية في أن تبدأ كندا وقد تلحقها ألمانيا وبعض الدول الأوروبية بالعمل على عولمة هذه الهوية على النطاق العالمي من خلال البحث عن العناصر الشاذة والمُنسلخة عن هويتها وثقافتها وتقاليدها وإستقطاب هذه العناصر كمواطنين في تلك الدول المُذيبة للهويات.
إذاً؛ الأزمة الكندية السعودية ليست سياسية أو دينية، أو أن القوانين السعودية الداخلية تتعارض مع مفاهيم حقوق الإنسان الدولية. بل الحقيقة هو أن الدولة الكندية أخذت تنظر إلى أن الأفراد الذين يتبرأون من ثقافاتهم وأديانهم على المستوى العالمي هم جزء من الهوية الكندية الجديدة، ولا يجوز عليهم إلا القوانين الكندية فقط، وكأنهم اكتسبوا المواطنة الكندية بمجرد إنسلاخهم من الهوية الأصلية التي ينتمون إليها.
وهذه هي الحقيقة المخفية التي تكمن في الأزمة التي افتعلتها كندا ضد السعودية، والتي كانت سبباً في تحرك الردع السعودي ضد الدولة الكندية، والضرب بيد من حديد ضد مشروع إجتماعي غير ظاهر تقوده كندا على المستوى العالمي من خلال إختزال مفاهيم حقوق الإنسان في التجرد من كافة الأفكار الدينية والإجتماعية لتكون جسراً للمواطنة الوهمية العابرة إلى بلادنا بعد أن فشلت في بلادهم.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

جراجمة القدس

الفسيفساء الفلسطينية

الشؤم الفلسطيني