جراجمة القدس

المقدمة:
على الرغم أن المؤرخين العرب كانوا على قدر عالٍ من الموضوعية والمنهجية، إلا أن مهمتهم اقتصرت على تدوين الفقه الإسلامي والتاريخ السياسي أكثر من البحث الإجتماعي لتوثيق تاريخ الشعوب والحضارات المجاورة لجزيرة العرب، ممّا مهّد وسهّل طريق المؤرخين المعاصرين إلى توجيه العرب نحو زوايا معينة من التاريخ دون رسم الصورة الواضحة للحقيقة التاريخية مُتكاملة الأركان.
فما غُرس في عقولنا حول تاريخ "أرض فلسطين" لا يُمثل الحقيقة التاريخية، فهو الذي ما زال يدور في الفلك الذي رسمه سكان "الجبال المقدسة" في لبنان وفلسطين وسوريا "على الترتيب"، غير أن جميع مراكز الدراسات المقدسية ما زالت محصورة في الإيدولوجيا المسيحية الحاضنة للقومية اليسارية.
ولنقتبس هنا بعضاً مما يدّعيه الباحث الدكتور "أندريه كحّالة"، بأن الحكام العرب حالياً ومن سبقهم من الأمويين إلى العثمانيين عملوا جميعاً على تذويب المقاومة التي قادها الجراجمة ما بين القرن السابع الميلادي والرابع عشر الميلادي، وأن عدم شرح مرحلة الاستقلال الذاتي للمردة أو الجراجمة في الكتب المدرسية والجامعية هو عملية تمويه وتذويب "لمحو هذه المرحلة العظيمة من التاريخ".
لذلك لابد من كسر قوقعة "السلحفاة الفلسطينية" لكشف حقيقة التوزيع الديموغرافي وفق جغرافية الجبال المقدسة ومؤثراتها على بيت المقدس، ولكن هذه المرة من خلال إختراق المراجع المسيحية والشيعية وملحقاتها العلوية والدرزية وفق منظور العقل العربي المُتجرد من جميع الإيدلوجيات وقومياتها، والبداية لا تكون إلا بطرح السؤال الذي ما زال محرماً فلسطينياً، بل لبنانياً وسورياً، وهو:

إذا كان اللبنانيون في أقصى الجنوب اللبناني من الشيعة؛ فما هو مذهب الفلسطينيين في أقصى الشمال الفلسطيني؟! ثم وما علاقة القومية العربية والبعث اليساري بالجراجمة ومقاومتهم من أجل بيت المقدس؟!

إن المسافة بين الجنوب اللبناني والشمال الفلسطيني ليست إلا أمتاراً فقط، وهي مساحة مأهولة بالسكان في مكان يُعرف بجبل "الجليل" أو جبل "عامل"، وفوق هذا الجبل حكاية تسرد لنا الكثير من الحقائق، والذي تسبب غيابها عن الساحة الفكرية والإعلامية العربية بفساد عقول الشباب العربي.
إن العقل العربي لم يعد يستوعب ثوابت القضية الفلسطينية من شدة تناقضاتها؛ فالشيعة والعلويون دمّروا لبنان وسوريا تقرباً لإيران، ومسيحيو لبنان وفلسطين وسوريا قولاً واحداً هم ضمن المشروع الإيراني أو الشيعي من أجل فلسطين، وكذلك صَمْت الفلسطينيين وهو أشبه بالحلقة الثالثة "الخفية" في الثالوث المسيحي الفارسي ذو الأضلاع الحجرية المُقدسة التي تربط بيروت بالقدس ثم دمشق.

الجبال المُقدسّة:
لم تتوافد الأمم السابقة على فلسطين من أجل البحث عن كنوزها الدفينة، بل لغايات عقائدية وهي الرباط في بيت المقدس، فكانت حروبهم طويلة الأمد ما بين سنوات من القتال وربما قروناً من الزمن. كانت معاركهم أشبه بالكر والفر من وإلى بيت المقدس الذي لا يدخله إلا رافعو راية الإنتصار، بينما يتقهقر الذين لم يحالفهم الحظ إلى الجبال المُجاورة يتربصون لحظة النصر الإلهي للعودة إلى بيت المقدس من جديد.
وقد أوضح ذلك المؤرخ العراقي "متي موسى" بأن فلسطين تميّزت عن سوريا بكثرة الأديرة والكنائس والمناسك والملاجئ والمستشفيات؛ لكثرة المهاجرين إليها من اليونان والرومان، ومن الذين كانوا يحضرون لزيارة الأماكن المقدسة.
توسعت المراجع المسيحية أكثر من العربية أو الإسلامية في حديثها عن الجبال المجاورة لبيت المقدس؛ فالمؤرخون المسيحيون أوضحوا بعض أو أهم الأسباب التي كانت سبباً لهروب المسيحيين إلى الجبال وخاصة بعد الفتح العربي "الإسلامي"، حيث أكد المطران "يوسف الدبس" بأن الخلفاء الراشدين لم يكترثوا بسكان الجبال لقلة أهميتها وتعسر مسالكها بعد فتح المدن السورية وطردهم ملوك الروم منها، بينما وصف الأب "فادي عماد" الجبال بأنها كانت ملاذاً آمناً لجميع الطوائف المسيحية للإسترخاء والصلاة هرباً من الظلم والحروب. وليس بعيداً عن تأكيد المؤرخ الشيعي اللبناني الشيخ "سليمان ظاهر" بأن جبال جنوب لبنان كانت ملجأ للعائلات التي انتقلت من جبل لبنان هرباً من الجوع والحروب.
ووفق ما ورد في بعض المراجع المسيحية والشيعية حول جبال لبنان وفلسطين وسوريا، سوف ندرك تماماً بأنها كانت الملاذ الآمن للمسيحيين والشيعة والعلويين والدروز من هجمات العرب المسلمين الذين لم ينتبهوا للجبال العالية، أو أنها لم تكن محض إهتمامهم.
كما أن المؤرخ اللبناني "ميشال حايك" عضو مجلس الكنائس العالمي لم ينفِ مقولة (السهول للعرب والجبال للمسيحيين)، ولكن أوضح بأن الصعود إلى الجبال يعود لقداستها الدينية أكثر منه الخوف من وصول العرب لسواحل الشام، وقد أسهب المؤرخ "حايك" في حديثه عن الجبال المقدسة، من حيث تسميتها ومواقعها الجغرافية وسبب قدسيتها على النحو التالي:
لنبدأ بـ "جبل لبنان" الذي يقع حالياً في الوسط اللبناني وفيه العاصمة بيروت، وتنبع قدسيته من إرتباطه بعرش الرحمن في السماء وإتصاله ببيت المقدس، وهو الموعد الروحي لجميع الأولياء من المسيحية والإسلام، يتآخون فيه، بينما أهل الحرب منشغلون في حربهم. كما تمتد قدسيته لـ "جبل الجليل" وهو جبل مولد المسيح، الذي يشمل الشمال الفلسطيني "إسرائيل" والجنوب اللبناني معقل "حزب الله"، ويُلحق به بعضاً من شمال غرب الأردن ليمتد إلى جبل حرمون "جبل الشيخ" على مرتفعات الجولان السوري. ثم تمتد قدسية جبل لبنان إلى "جبل اللُكام" الذي يقع في مدينة "أنطاكية" التركية داخل لواء "الأسكندرون" السوري سابقاً، وعلى هذا الجبل تقع مدينة "جرجومة" عاصمة قوم الجراجمة.. فمن هم الجراجمة؟!
وأضاف المؤرخ "حايك" بأن الشام هو الأرض المقدسة ومهبط الوحي ومحل الأنبياء والأولياء، وجبل اللُكام لا يسكنه إلا الأولياء أو "الأبدال" الذين يرحم الله بهم ويعفو بدعائهم، لا يزيدون على السبعين ولا ينقصون عنها، كلما مات واحد منهم قام من الناس بدله، ثم جبل لبنان وفيه أنواع الفواكه والزروع من غير أن يزرعها أحد، يأوي إليه الأبدال للبحث عن القوت الحلال، وفي الجبل التفاحة الأعجوبة التي لا تفوح رائحتها إلا بعد أن يتوسط حاملها نهر الثلج.

إيدولوجية الأبدال:
إن عقيدة الأبدال أو الرجال الصالحين نشأت بين الآراميين "السريان" قبل تحولهم من الوثنية الفارسية إلى المسيحية، وبعد أن ألزم العرب المسيحيين والسريان بـ"الإستعراب"، ثم تغلغت عقيدة الأبدال في بلاد الشام حتى أصبحت جزءاً من عقيدة الصوفيين، وهم الأكثر إنتشاراً في بلاد الشام حتى اللحظة.
واتضح هنا من خلال البحث في المراجع المسيحية والشيعية والصوفية "على الترتيب"، بأن وصف الوديان وأنهارها العذبة والبساتين وثمارها الطيبة كان جزءاً من فضائل الجبال المقدسة، ومن ضمنها أيضاً النقوش والرسوم الدينية على الصخور التي ترمز لعلامات عقائدية بأن هذه الجبال كانت حقاً مقدسة عبر تاريخ قديم، حيث يقول الصحفي اللبناني "يوسف الحوراني" بأن من سكن جبل حرمون "جبل الشيخ" كانت شخصيته متكاملة متميزة لهيبة الجبل وعظمة القصص المنسوبة لأرضه.

والشاهد هنا.. ووفق فِهم مسيحيي وشيعة وصوفيي بلاد الشام، أنه على الرغم من إختلاف مُسميات عقائدهم الدينية؛ لكنهم متوافقين ومتقاربين في "الفلسفة العقائدية"، ذاتها التي جعلت هذه الجبال معقلاً لهم بأن هذه "الأرض الحاضنة" فيها أهم أركان ومقومات الهوية التي تتمحور وفق عنصرين فقط ولا أعتقد لهما ثالثاً، وهما الإنسان والمكان.
فالإنسان لا يتحقق صلاحه أو لا يستقيم أمره إلا بعد صعوده فوق أحد هذه الجبال المقدسة المرتبطة بعرش الرحمن، بينما تكون الأنهار والبساتين الخضراء مكافأةً على روح شجاعته وصبره على سنوات سوف يقضيها على هذه الجبال إلى أن يأتي أمر الله للزحف نحو بيت المقدس، ولو بعد حين من القرون.
ولكن قد يُلزمهم هذا بعدم النزول إلى ما دون مستوى معين من الجبال أو عدم المشي في الصحراء القاحلة؛ فالعيش في مكان لا أنهار فيه ولا أشجار قد يكون سبباً في فقدان نصف هويته أو التجرد من قدسيته ومعصوميته التي اكتسبها من جبال لبنان وفلسطين وسوريا، وبعض منهم يستشهد بوصية النبي "شيث" الذي أوصى أولاده بألاّ يهبطوا من الجبل المقدس "جبل الشيخ" وألاّ يختلطوا بأولاد قابيل الملعون.
وقد يكون هذا هو سبب نظرتهم الدونية لمن عاش تحت جبال لبنان وفلسطين وسوريا في السواحل وخاصة الصحراء العربية، بأنهم غير صالحين أو هم الضالين والمغضوب عليهم الذين أذاقهم الله عذاب الشرب من بول البعير بعد أن حرّم عليهم الأنهار والبساتين كما هم عليه فوق الجبال المقدسة.
فالباحث "أندريه كحّالة" يرى أن أسباب التناقض بين العرب وسكان بلاد الشام يرجع للفرق بين الصحراء القاحلة والجبال الخضراء، وأن الغزو العربي لبلاد الشام كان من أجل الفوز بجنة بلاد الشام هرباً من صحراء العرب القاحلة.
فالباحث كحّالة وغيره الكثيرون يحصرون مقالاتهم ودراساتهم فقط في ركني الجبال المقدسة وألوانها الزاهية دون التطرق للمقارنة بين الجوانب الفكرية الإسلامية والمسيحية أو حتى اليهودية، والأمر يرجع إلى عقيدة الأبدال التي تغلغلت في عقول المسلمين والمسيحيين بعد غزو الجراجمة لبلاد الشام.

الجراجمة:
عادة ما يتحدث سكان بلاد الشام وخاصة الفلسطينيون واللبنانيون عن أجدادهم من الكنعانيين والفينيقيين ما قبل الميلاد بإسهاب وتفصيل وكأنهم كانوا بيننا ليلة الأمس، بينما تتلعثم مراجعهم التاريخية عند السؤال عن قوم الجراجمة الذين كانوا حقاً بيننا ليلة الأمس.
حيث أبدى المؤرخ اللبناني "انستاس ماري الكرملي" دهشته لعدم حديث المؤلفين العرب عن الجراجمة رغم حديثهم عن الشعوب الأخرى كالأكراد بشكل مفصل حول قبائلهم وتنظيماتهم، كما أن المؤرخين الفرس لم يذكروا شيئاً عن الجراجمة مع أنهم كانوا جيران الأكراد.
وبإختصار شديد لما ورد في جميع المراجع الإسلامية والمسيحية هو أن الجراجمة هم قوم يسكنون على الخط الفاصل بين العرب والترك، ما بين جنوب بحر قزوين غرباً إلى مدينة أنطاكية جنوباً بإتجاه ساحل سوريا ولبنان التي تقع على جبل اللكام المقدس حيث هناك عاصمتهم "جرجومة"، ويغلب عليهم العرق الفارسي، وإن كان فيهم بعضاً من الكرد والترك، وكانوا تحت رعاية الدولة "الميدية" الفارسية الوثنية جنوب بحر قزوين، أو كما وصف المستشرق الألماني "هنري لمنس" الجراجمة بالآراميين الناطقين بالسريانية.
لقد توسعت المراجع المسيحية في بحثها عن الجراجمة وكيانهم السياسي فوق الجبال المقدسة أكثر من المراجع العربية والإسلامية، والباحث اللبناني "أندريه كحّالة" تحدث هنا عن ثلاث دول أقامها الجراجمة فوق الجبال المقدسة، ما بين عهد الأمويين وحتى اللحظة في دولتهم القائمة حالياً في لبنان تحت حكم "الموارنة".
حيث انطلقت دولة الجراجمة الأولى بعد دخول الصحابي عمر بن الخطاب إلى بيت المقدس، والتي بدأت بجبل اللكام ثم امتدت إلى بيت المقدس في عهد الأمويين، وكانت عاصمتها "بسكنتا" في جبل لبنان، بينما انحصرت دولة الجراجمة الثانية (685 إلى 758) م، بين جبل لبنان وجبل الجليل "شمال فلسطين"، وأضاف أن الدولة الثانية قامت على محورين، هما:
القومية: وهو مشروع تحالف الجراجمة مع الأقليات غير العربية كالشيعة لتشكيل هوية جديدة بين الجبال المقدسة لمواجهة الغزو الفكري العربي، بينما المقاومة وهي المحور الثاني: وهي عبارة عن مجموعات مسلحة لمواجهة التمدد العربي عسكرياً بين الجبال المقدسة.
وما هو جدير بذكره هنا أن الباحث "أندريه كحّالة" أكد أن مشروع "القومية الجرجومية" ويتبعه "المقاومة الجرجومية" قد نجحا بين الجبال المقدسة، وخاصة بين جبلي لبنان والجليل الفلسطيني لعدم إستقرار العرب هناك، بل كان العرب يأتونها جنوداً يقاتلون الجراجمة ثم يعودون إلى بادية سوريا والعراق والجزيرة العربية.
لذلك حرص الخليفة العباسي "أبو جعفر المنصور" على التوطين الدائم للعرب "السنّة" أو ربما المستعربين القادمين من مدينة "حلب" السورية، وهذا هو سبب إنهيار الدولة الجرجومية الثانية، أو تحولها لمنظومة الدولة الثالثة (758 إلى 1305) م، لدعم مشروعي القومية والمقاومة من خلال مرحلة جديدة، وهي إعادة إحياء "البعث" المسيحي العالمي بين الجبال المقدسة للوصول إلى بيت المقدس.
ومن أهم المعارك التي خاضها الجراجمة هي حرب "البرق" أو "المدفون" عام 1293 م، حيث تمكن الجراجمة من القضاء على جيش السلطان "محمد بن الناصر بن قلوون" المملوكي الذي أراد التخلص من الجراجمة والأقليات غير السنيّة بعد أن ضاق ذرعاً من تربصهم وتمردهم، لكن الخدعة كانت سبب إنتصار الجراجمة في هذه المعركة، حيث تجمعوا وقت الغروب على سواحل لبنان ليوهموا المماليك بأنهم سوف يهربون إلى أوروبا، وفي منتصف الليلة باغت الجراجمة المسلمين وهم يتقاسمون الغنائم.
وما أكده المؤرخ "جال دوفيتري" أن الجراجمة شكلوا الفيالق الأولى في التحرك الصليبي، وبشهادة بعض المؤرخين أن القوى التي دخلت وحررت القدس لم تكن من الصليبيين الأوروبيين، بل كانت من المشرقيين "الجراجمة" الذين كانوا ينتظرون منذ مئات السنين الفرصة المناسبة لإعادة تحرير بيت المقدس من العرب المسلمين.
وهنا لابد من المرور على المراجع الإسلامية، ولكن ما هو مثير للشك أنه لم يصلنا شيء حول الجراجمة مما كتبه الأمويون في عهدهم، وما هو في متناولنا الآن فقط من حديث العباسيين عن الجراجمة، والغريب أيضاً أن مراجع العباسيين تحدثت عن أمر الجراجمة في عهد الأمويين ولم تتحدث عنهم في عهدهم.
ومع ذلك نذكر أهم ما جاء في المراجع الإسلامية مما كتبه المؤرخ العباسي "البلاذري"، وهو أن الجراجمة تربصوا لجيش أبو عبيدة الجراح بالخفاء وعدم الظهور أمامه أثناء دخول الجيش العربي عاصمتهم جرجومة في جبل أنطاكية، حيث ذكر البلاذري بأن الصحابي أبو عبيدة الجراح (لم ينتبه للجراجمة ولم يُنبَّه بشأنهم)، ويبدو أنهم أناس ذوي بأس شديد؛ حيث التزموا الصمت والهدوء لحظة دخول جيش العرب المسلمين إلى عقر دارهم، ولم يخرجوا إلا بعد أن خرج قادة الجيش العربي منها، وحقاً نجحوا في استرجاعها بدقة خطتهم الصامتة.
كما أنهم قوم متمردون؛ وقد ظهر ذلك من خلال الإستراتيجية التي اتبعوها طوال حكم الدولة الأموية وحتى نهاية الإنتداب الفرنسي والبريطاني، وهي إشاعة الفوضى والنهب لتعطيل منظومة الدولة الإدارية، وخاصة أثناء فتنة الخوارج في العراق والشام في العهد الأموي.

والشاهد هنا.. هو أن الجراجمة هم قوم (متربصون، متمردون، مقدسون)، بل قوم معصومون، حيث لم تتغير استراتيجيتهم التي هي من أجل السيطرة على الجبال الثلاث المقدسة "اللكام، لبنان، الجليل" للوصول إلى بيت المقدس والفوز بتخليصه من العرب.
وأن مشروع المقاومة عند الجراجمة بدأ ضد العرب في عهد الصحابي "عمر بن الخطاب" بالتعاون مع البيزنطيين، ثم استمر بالتعاون مع الصليبيين. ومن أجل الحفاظ على مشروع "المقاومة الجرجومية"، كان لابد لهم من خلق مفهومي أو مصطلحي "القومية" و"البعث"، لغاية صهر جميع الأقليات غير العربية تحت راية الجراجمة.
لذلك ليس صحيحاً ما نعتقده أو ما فهمناه بأن "القومية العربية، البعث الإشتراكي، المقاومة الشيعية" هم نتاج الضعف العربي في فلسطين أو لسقوطها بيد اليهود، بل الحقيقة أن هذه المصطلحات والمفاهيم انطلقت لحظة دخول الصحابي عمر بن الخطاب إلى بيت المقدس، أي قبل نشأة إسرائيل بأكثر من ألف عام.
ولو قرأ الرئيس العراقي الأسبق "صدام حسين" مقالي هذا، لما كان انتسب لحزب البعث الإشتراكي، ولأدرك بأن صديقه السوري "ميشيل عفلق" مؤسس حزب البعث أراده أن يكون وسيلة لإعادة أمجاد الجراجمة تحت مسميات اليسارية والإشتراكية.

مثلث الجراجمة:
وقد أصبح من الضرورة البدء برسم خريطة أولية للتوزيع الديموغرافي على الجبال القريبة من بيت المقدس، والتي كانت على مر العقود الماضية ملاذاً آمناً للكثير من الطوائف غير العربية أو غير السُنّية المُتربصة لوصول العرب إلى بيت المقدس.
ويمكن رسمها على شكل قوس أو مثلث ينطلق ضلعه الأول من مدينة "يافا" الفلسطينية إلى مدينة "السويداء" السورية، والتي ينطلق منها الضلع الثاني ليصل مدينة "أنطاكية" التركية، بينما الضلع الثالث يشمل ساحل البحر المتوسط من الجهة السورية واللبنانية، وهو المثلث الذي أسميته بـ "مثلث المُتربصين" وفيه تقع العواصم الثلاث، القدس ودمشق وبيروت.
والمثلث الذي رسمته يتوافق مع نظرة المؤرخ العراقي "متي موسى" التي ألقاها على سوريا وفلسطين وشرق الاردن قبل أن يدخلها العرب المسلمون، حيث وجد أن حدود الشام الغربية على سواحل بحر الروم كان يغلب عليها العنصر اليوناني، وحدودها الشرقية ممّا يلي البادية يغلب عليها العنصر العربي. أما أواسط البلاد فكان يغلب عليها العنصر الآرامي، والأنباط العرب كان مقامهم في الجنوب الشرقي من فلسطين، وذكر المؤرخ موسى بأن المحققين من المؤرخين العرب والافرنج يؤيدون هذه النظرة.
وحتى اللحظة، ما زالت القبائل العربية ذات الأسماء المعروفة والقادمة من الجزيرة العربية تتمركز خارج مثلث المتربصين (جنوب فلسطين، جنوب وشرق الأردن، شرق سوريا)، بينما العرب المتواجدين داخل المثلث هم مجموعات من الأسر والعوائل الصغيرة، بعضهم بقايا جنود الجزيرة العربية في عهدي الصحابي عمر بن الخطاب والقائد صلاح الدين الأيوبي، وبعضهم مستعربين.

هوية الجراجمة:
أوضحت المراجع التاريخية بأن الإمبراطور البيزنطي "هرقل" هو من فرض أمر الجراجمة واستعان بهم للسيطرة على مثلث المتربصين في القرن السابع الميلادي كـ "جماعة دينية" للحفاظ على وحدة الإمبراطورية البيزنطية من الغزو العربي. وبعد أن استطاع الجراجمة السيطرة على مثلث المتربصين الذي كان أشبه بدولة الجراجمة، أخذوا يتقلبون بين العرب والبيزنطيين، فتارة يوالون العرب ومن ثم يوالون البيزنطيين تارة أخرى.
وفي تلك الفترة أصبح عدد الجراجمة ألوفاً كثيرة، وخاصة بعد انضمام الكثير من سكان بلاد الشام لقوم الجراجمة، ولكن كانت المشكلة في أن المراجع التاريخية لم تتحدث عن هوية المُنضمين للجراجمة، واكتفت بقول (الفارين من الأنباط العرب والعبيد)، وكل المؤشرات تشير قولاً واحداً أن الفارين من الحكم الأموي هم الرافضين للوجود العربي في بيت المقدس.
لذلك كان من الضرورة إعادة البحث عن أهم العوامل التي كانت أسباباً لهروب بعض سكان بيت المقدس أو مثلث المتربصين من الحكم العربي، وخاصة الأموي، وهم الفارين الذين انضموا للجراجمة، فالأمر سوف يفيدنا كثيراً في إعادة رسم الصورة الحقيقية لهوية الجراجمة، وهم كالتالي:

(1) الذين لم يدخلوا الإسلام عن رضاً وقناعة، وإنما أملته المصالح المادية البحتة أو للتخلص من الجزية. (2) الذين رفضوا "تعريب" بيت المقدس على حساب العلوم الآرامية والسريانية. (3) الذين لم يقبل الصحابي معاوية بن أبي سفيان إسلامهم بعد أن استشاط غضباً من توغل الجراجمة في بيت المقدس، حسب ما ورد في "تاريخ خريسوستومس". (4) الذين اضطروا مكرهين لأداء الصلوات الكنسية باللغة العربية بعد أن منعهم العرب المسلمون من أداء الصلوات بغير اللغة العربية خوفاً من أن يكونوا عيوناً للروم. (5) وأخيراً، السريانيون الذين أسلموا وأحسنوا إسلامهم ولغتهم العربية، لكنهم تحالفوا مع الفرس والخوراج بعد أن رفض العرب مصاهرتهم إجتماعياً.

وقراءتي هنا.. أن الهاربين والفارين من الحكم الراشدي والأموي هم فئتان: (1) الرافضون للحكم العربي الإسلامي، وهم الأغلبية. (2) المرفوضون من الثقافة العربية، وهم الأقلية.
إذاً.. وعلى الرغم أن هوية الجراجمة ذات العرق الفارسي التي جاءت إلى بيت المقدس من جبل اللكام كانت تحمل عقيدة الأبدال المقدسين، إلا أنه من أجل تثبيت أركانها في بيت المقدس "مثلث المتربصين"، كان لابد للجراجمة من خلق هوية سياسية مرنة لتكون جامعة لمجموعة من الناس بمختلف أطيافهم العرقية والدينية. 
وما يؤكد أن مرونة هوية الجراجمة كانت للأغراض السياسية، هو تعريف العميد الركن اللبناني "جورج فغالي" بأنه بعد أن تحالف الموارنة مع الجراجمة تشكلت هوية جديدة قائمة على: (1) المذهب الماروني. (2) محاربة العرب الفاتحين. وهو ما جعلهم يسيطرون على قمم الجبال في سوريا ولبنان وبيت المقدس. وغير ذلك يقول الباحث "غسان خلف" بأن هوية الجراجمة بدأت تتشكل بعد خلافاتهم مع البيزنطيين بسبب هدنتهم مع الأمويين لأغراض سياسية.
لذلك من أجل الجمع بين الرافض للعربية والمرفوض منها، كان لابد من خلق هوية تحمل أولوياتها الجديدة من خلال هوية شاملة لجميع العقائد المتواجدة في مثلث المتربصين، تبث فيهم القوة والعزيمة المستمدة من عقيدة الأبدال الصالحين التي سوف توحدهم وفق مفاهيم التربص والتمرد لكل من يقترب منهم من العرب، أو من سكان الصحراء وما دون الجبال.
ولكن المعضلة الحقيقية كانت في تحديد أصول الجراجمة في مثلث المتربصين من حيث الأنساب؛ فبعض المصادر المسيحية أكدت أن السريان تخلوا عن اسمهم القديم "الآراميين"، لأنه كان يذكّرهم بوثنيتهم، وصارت اللغة الآرامية تعرف بـ "اللغة السريانية".
ويقول المؤرخ العراقي "متي موسى": لا نستطيع أن نجزم بأن بعض السوريين والفلسطينيين عرباً أم لا، نظراً لتغيير الأسماء، وهذه العادة درجت بين المسيحيين الأقدمين أن يغيّروا أسماءهم عند اعتناقهم النصرانية، وكانوا دائماً يفضلون أسماء الأنبياء والقديسين والشهداء الذين استشهدوا في القرون الثلاثة المسيحية الأولى. ويبدو أن هذه العادة المسيحية انتقلت إلى مسلمي بلاد الشام، فالكثير من العائلات الفلسطينية داخل مثلث المتربصين نسبوا أنفسهم لأحفاد الصحابة ومن تبعهم في القرون الثلاثة الأولى، فكما هي الأنساب تتبدل في المسيحية الشامية، أيضاً تتبدل في الأنساب الإسلامية في مثلث المتربصين.
وما زال هناك خلاف بين مسيحيي لبنان حول أمر الجراجمة، فريق يؤكد أن الطائفة المارونية في لبنان هي من أصول الجراجمة، وفريق يرفض ويعتبرها تهمة بحق المارونية اللبنانية، في حين أن الفريقين توافقا على أن الطائفة المارونية تزامن ظهورها مع ظهور الجراجمة في القرن السابع الميلادي لحظة وصول العرب المسلمين إلى بيت المقدس.
وورد في العديد من المقالات الفلسطينية بعض التبريرات لتوجه بعض العائلات الفلسطينية لتغيير الإسم الأخير "إسم العائلة"، بسبب عدم توافقها مع اللغة العربية والتقاليد العربية.
ويمكن هنا الإستفادة من وصف المؤرخ السوري "محمود الدغيم" لجراجمة اليوم، حيث أكد أن جراجمة لبنان تحولوا إلى المسيحية، وجراجمة سوريا تحولوا إلى النصيرية أو العلوية، بينما جراجمة الجليل "جنوب لبنان وشمال فلسطين" تحولوا إلى الشيعة. كما أن المؤرخ "كمال الصليبي" سجّل اختفاء القرامطة من لبنان بعد نشوء المذهب الدرزي.

جراجمة فلسطين:
ليس مشبِعاً ما أوردته المراجع العربية حول تغلغل الجراجمة في بيت المقدس، بل أن مشكلة عرض التاريخ الفلسطيني عادة ما يكون وفق التسلسل الزمني فقط ودون ربط الأحداث ببعضها. فعلى سبيل المثال، التاريخ الفلسطيني حصر الحديث عن الجراجمة بين القرن السابع والعاشر الميلاديين، ثم بشكل منفصل عن الجراجمة ذكر أن التشيع بدأ في القرن العاشر الميلادي، وما هو المؤسف أن التاريخ الفلسطيني تجاهل أهم الشواهد التي تشير إلى أن الشيعة والموارنة والعلويين هم أطوار محدّثة من الجراجمة، وأن بيت المقدس كان مقراً لأجدادهم حتى وقت قريب من رحيل البريطانيين.
لذلك كل ما سوف أورده حول جراجمة فلسطين سوف يكون مقتبساً فقط من المركز الوطني للمعلومات والموسوعة الفلسطينية، وهما أكثر مصدرين موثقين للمعلومات الفلسطينية، ولكن ضمن ترتيب معين مترابط للوصول إلى حقيقة جراجمة القدس، كالتالي:
أولاً: موالي بيت المقدس: هم السكان الأصليين من السريان في بيت المقدس الذين اعتنقوا الإسلام وتعلموا اللغة العربية، ولكن بعد أن رفض أبناء القبائل العربية مصاهرتهم ودمجهم إجتماعياً، امتعضوا لذلك أشد الامتعاض، وأظهروا هذه المرارة التي ملأت نفوسهم بانحيازهم إلى الشيعة في العراق والخوارج في إيران.
وبعد أن ظهر تفوقهم على العرب في ميدان العلم والفكر والفنون، أخذوا ينافسون العرب في تولي الزعامة السياسية بفلسطين، وبعد ذلك حققوا مرادهم وهو الزواج من العرب والإندماج بهم إجتماعياً، ونتج عن اختلاط الموالي بالعرب تشريع إطلاق لفظة "عربي" على جميع المسلمين الذين تحدثوا العربية دون اعتبار العرق الذي انحدروا منه.
ثانياً: جراجمة بيت المقدس: كان للجراجمة العديد من الجولات طوال الحكم العربي الراشدي والأموي ما بين القرن السابع والعاشر الميلاديين، ولكن خضع الأمويون للجراجمة بعد سيطرتهم على بيت المقدس في عهد الصحابي معاوية بن أبي سفيان، وعهد الأموي عبدالملك بن مروان وابنه الوليد على عدة مراحل. كما هرب بعضهم إلى جبل الجليل في شمال فلسطين من شدة الحروب ضدهم، في حين أن المراجع المسيحية أكدت عودة الجراجمة بعد العهد الصليبي.
ثالثاً: شيعة بيت المقدس: ووفق ما ورد في الموسوعة الفلسطينية بأن أول ظهور للشيعة في بيت المقدس كان في القرن العاشر الميلادي، وكان لهم جولات عديدة في فلسطين، فقد خاضوا حربهم ضد صلاح الدين الإيوبي، ثم قاتلهم أحمد باشا الجزار قبل وبعد الحملة الفرنسية على مدينة عكا، والتي تعرف بمعركة "صفد" بالقرب من جبل الجليل "شمال فلسطين/جنوب لبنان" عام 1780م. وهذا يعني أنهم تواجدوا في فلسطين 700 عام، بل يزيد لأنه التاريح ذكر تحرشاتهم طوال الفترة العثمانية إلى حين هجرتهم الأخيرة والخروج من بيت المقدس إلى مدينة دمشق السورية ومدينة بعلبك اللبنانية في العهد البريطاني وقبل إعلان دولة إسرائيل.
رابعاً: متاولة جبل الجليل: وهذا ما يؤكده الباحث الإيراني "علي حب الله" بأن سكان جبل الجليل جنوب لبنان ليسوا من العرب لفقر الأدلة، وربط وجودهم في جبل الجليل الفلسطيني بوصول الجراجمة إليه، واعتمد الباحث حب الله على روايات بعض الرحالة والمستشرقين، حيث يقول "أرنست رينان" بأنه شاهد عائلة أو عائلتين، وعرف فيهما العنصر الإيراني الكردي الذي جاء بهم صلاح الدين، بينما " لورتيه" قال إن شيعة جنوب لبنان هم من الأكراد الذين جاءوا من الحدود الفارسية، و"فانديك" أكد أن الظاهر من اعتقادهم وهيئاتهم أنهم من أصل فارسي.

قراءتي هنا.. أن الجراجمة بعد أن استعان بهم البيزنطيون لطرد العرب من بيت المقدس وجواره، نجحوا في تقوية أركانهم بين الجبال المقدسة في العهد الراشدي، ثم دخلوا بيت المقدس في العهد الأموي، وكان فيه البيئة الخصبة لنمو هوية الجراجمة، حيث كان فيه الرافضون للوجود العربي والمرفوضون من العرب، وكلاهما انتسب للجراجمة، وتشير المراجع إلى أن جراجمة القدس كان عددهم ألوفاً، حتى اضطر الأمويون لمصالحتهم ودفع الجزية للجراجمة دون أن يشير مصدر واحد لخروجهم من فلسطين.
وبعد أن قويت شوكة العباسيين والعجم في بلاد الشام، انتسب الجراجمة للمذهب الشيعي، وعلى الأغلب هي فترة انتسابهم إلى آل البيت والصحابة، كما كان يفعل المسيحيون، ثم إن الحروب التي كانت بين العجم وشيعة بيت المقدس سببها خلافات سياسية وليست عقائدية، حيث استمر بقاؤهم في بيت المقدس حتى فترة الإنتداب البريطاني.

جراجمة اليوم:
الجدير بفهمه جيداً هو أن رحيل شيعة بيت المقدس "الجراجمة سابقاً" إلى جبل الجليل شمال فلسطين أو جنوب لبنان في عهد الإنتداب البريطاني هو أمر غير معقول؛ فرحيلهم كان طوعاً لا كرهاً إلى "شمال فلسطين" ودون حرب أو قتال مع البريطانيين كما فعل أسلافهم الدمويون مع العرب في الحكم الراشدي والأموي حتى المملوكي والعثماني.
حيث أدرك جراجمة بيت المقدس حينها بعد خضوع فلسطين للإنتداب البريطاني بأن مدينة القدس خرجت من حكم العرب والعجم معاً، وأن المرحلة المقبلة سوف تكون لليهود فقط، وهم من سوف يحمل راية الإنتصار لدخول المدينة المقدسة، والأمر الذي سوف يلزمهم للعودة إلى ما كانوا عليه سابقاً من التربص والتمرد فوق الجبال المقدسة بالقرب من بيت المقدس لعل لهم عودة بعد عقود أو قرون.
كا أن العودة إلى جبل اللكام المقدس كما كانوا عليه قبل رحيل البيزنطيين ليس سهلاً وغير مقبولاً من الحكومة التركية العلمانية لرفضها كل الناطقين بالعربية بعد تهالك وسقوط الأنظمة العثمانية.
بينما كان التفاؤل موجوداً أيضاً ومشجعاً للإنسحاب إلى جبل الجليل وفق ثلاثة أسباب، ولم أر غيرها على الساحة السياسية حينها، وهي: (1) نجاح أبناء عمومتهم "العلويين" في تأسيس دولتهم العلوية في سوريا. (2) الدعم العالمي لقيام دولة مسيحية في الشرق الأوسط يقودها أبناء عمومتهم "الموارنة". (3) أن جميع الشواهد التاريخية الموثقة تؤكد أن شمال فلسطين كان البيئة الخصبة لجراجمة بيت المقدس، فهم على اتصال مع جراجمة جبل الجليل عرقياً وفكرياً، وكلما شعروا بالهزيمة على مرّ التاريخ هربوا إلى جبل الجليل ، حيث أكدت الموسوعة الفلسطينية بأن حرق كتب الشيعة في بيت المقدس في العهد المملوكي استغرق أسبوعاً في أفران مدينة عكا، وأن جميع الكتب كانت تأتي من جبل الجليل الذي كان مركزاً لجراجمة بيت المقدس.
يقول الكاتب "حبيب صادق" في حواره مع "طانيوس دعيبس" في كتاب "حوار الأيام" بأن جبل الجليل كان ضحية الأحداث في سوريا وفلسطين، وأن سكان جبل الجليل واجهوا قوات الإنتداب الفرنسي بالحركة الشعبية المسلحة.
وكل المراجع المسيحية والشيعية تحدثت عن رغبة سكان جبل الجليل في تكوين دولتهم المستقلة دون الخضوع إلى لبنان أو فلسطين، أو ربما اللحاق بالحكم الهاشمي في سوريا على أقل تقدير كمرحلة مؤقتة تمهيداً لإعلان الدولة الشيعية على جبل الجليل الفلسطيني.
ولكن الضربة القاضية كانت بعد التفاهم الفرنسي البريطاني عام 1920م على تقسيم جبل الجليل إلى منطقتين، حيث ضمت إسرائيل المدن الهامة لها، وخاصة قلب الجبل وهي مدينة الجليل ومعها مدينة الناصرة مولد المسيح، فيما تبقى للبنان "الجنوب" وهي بعض القرى والضواحي التي ليس لها دلائل تاريخية أو دينية وهي جنوب لبنان حالياً ومعقل حزب الله.
وهذه ليست الضربة الأولى، بل الثانية، حيث شهد جبل الجليل أهم الصراعات بين اليهود والمسيحيين في القرن الثاني الميلادي، عندما رفض اليهود اعتناق سكان جبل الجليل اليهودية لإختلاطهم بالعرق الفينيقي "اللبناني".
إن ما يربط شمال فلسطين بالجنوب اللبناني هو (32) قرية فلسطينية، والتي تعرف بـ "القرى الفلسطينية الشيعية السبع"، وهي الآن تخضع للسيادة الإسرائيلية، بينما هرب الفلسطينيون الشيعة لجنوب لبنان، وبعض من السنة والمسيحيين والدروز.
والغريب أن رئيس الوزراء السابق "رفيق الحريري" منح الفلسطينيين الشيعة الجنسية اللبنانية ضمن مقايضات صفقة "إتفاق الطائف"، فهؤلاء تغلغلوا في الدول العربية المجاورة تحت مسميات "لاجئون فلسطينيون"، بينما هم في لبنان شيعة كحزب الله.
وللإجابة على السؤال الأول المطروح في المقدمة، وهو إذا كان اللبنانيون في أقصى الجنوب اللبناني من الشيعة؛ فما هو مذهب الفلسطينيين في أقصى الشمال الفلسطيني؟!.
نعم.. هم من الأغلبية الشيعية سواءاً كانوا جنوب لبنانيين أو شمال فلسطينيين، والقول بأنهم من قحاح لبنان أو فلسطين لا يتناقض مع أنهم من قوم الجراجمة ذوي الأصول الفارسية.
إن الهوية المرنة التي تبنّاها الفرس الجراجمة عملت على إنزال الدين والعقيدة للدرجة الثانية، على أن تكون الأولوية للرافضين للحكم العربي والمرفوضين من الثقافة العربية لتسهيل انتساب سكان مثلث المتربصين لهوية الجراجمة الجامعة، ويظهر ذلك في أبناء عمومتهم من العلويين في دمشق والموارنة في بيروت.
إن ما يجري اليوم على الساحة، وهو ما يجب فهمه جيداً، هو أن الجراجمة بكافة أديانهم وطوائفهم فقدوا بيت المقدس ولا عودة لهم إليه بعد وقوعه تحت السيطرة اليهودية المحكمة، كما أنهم غير قادرين على العودة إلى موطنهم الأصلي جبل اللكام الذي منه كانوا يستمدون ذاتيتهم المقدسة.
ولم يبق لهم إلا جبل لبنان حالياً وبعض أطراف جبل الجليل الفلسطيني ودمشق التي تخضع لحكمهم، وبما أن اليهود لا يرغبون بالوصول إلى هذه الجبال، فكان الخوف فقط من المد العربي الجديد بما يتوافق مع معطيات العصر الحديث، كالتحالفات السياسية التي قادتها المملكة العربية السعودية عبر حلفائها في سوريا وفلسطين وخاصة لبنان، فالرياض أخذت تستقطب الرافضين لحكم الجراجمة كما كانوا هم يستقطبون الرافضين للحكم العربي بعد دخول الصحابي عمر بن الخطاب لبيت المقدس.
إن أكثر ما يخيفهم اليوم هو أن تستطيع أو أن تنجح السعودية في إسقاط أنظمتهم السياسية في سوريا ولبنان وجنوبه، فهي عندهم بمثابة النزول من الجبال المقدسة إلى السواحل والصحراء وفقدان القداسة التي هي أملهم للعودة لبيت المقدس، وهو غضب الرب عليهم بأن يشربوا بول البعير كما كانوا يعتقدون بأن العرب يشربونه وفق معتقدات عقيدة الأبدال الوثنية.

خلاصة القول..
إن ما فعلته بيزنطة بغرسها للجراجمة في مثلث المرتبصين بعد عجزها عن مقاومة العرب الفاتحين هو نفسه ما فعلته بريطانيا بغرسها للإخوان المسلمين في مصر، فالبيزنطيون والبريطانيون كلاهما من منطقة واحدة، ومناهجهم متقاربة نوعاً ما في الحرب والسلم.
ولكن المشكلة تتفاقم بعد غياب الدولة الأم أو الراعية للمشروع المغروس، كسقوط بيزنطة وضعف بريطانيا، مما جعل هؤلاء "التوابع" يتوهون شرقاً وغرباً بحثاً عن قائدٍ يحفظ لهم هويتهم "المضطربة" في الشرق الأوسط العربي، وهو سبب نشأة بعض الطوائف والمذاهب وخاصة في مثلث المرتبصين بين القدس ودمشق وبيروت، وما فعله الجراجمة عبر تاريخهم سوف يفعله الإخوان المسلمون بعد تقهقر بريطانيا أكثر وأكثر عن الوطن العربي.

وللحديث تتمة.. في الجزء الثالث والذي سوف يسلط الضوء على دور الجراجمة في المسجد الأقصى من خلال قراءة تاريخية معمقة بعض الشيء، وثم الجزء الرابع الذي سوف يبحث في وصول الجراجمة إلى دولة قطر بعد فشلهم في الكويت.


المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الفسيفساء الفلسطينية

الشؤم الفلسطيني