فلسطينيو الأزمة الخليجية

إن من العرف الدولي الذي نعيشه اليوم هو أن تتخذ الدول مُسمّيات لبعض الأحداث تحمل شعارات للترويج لحدث ما؛ فتصفيات كأس العالم تحمل شعاراً رياضياً، ومعرض اكسبو حدث إقتصادي، بينما كافة التسميات والشعارات الملحقة بأحداث 11 سبتمبر كانت لغاية تسهيل التحركات الأمريكية في جميع دول العالم تحت طائلة إجماع الشعب الأمريكي على محاربة الإرهاب.
من هنا حرصت دولة قطر على الترويج لمصطلح "الحصار" الظالم أو الغاشم أمام جميع المحافل الدولية، وربما أكثر من حرص دول الرباعية على شروط المصالحة، ومع ذلك لم يدرك المجتمع العربي ما الذي تريده قطر في إصرارها على تسمية في غير موضعها وليس لها محل في القوانين الدولية.
لفهم الأبعاد القطرية في تفضيل مصطلح "الحصار" على "المقاطعة"، يجب الرجوع لأسس الأدوات الفكرية التي جيّشتها حكومة قطر ضد تحالف الرباعية، والتي تنطلق جميعها من "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات" الذي تأسس عام 2010م في العاصمة الدوحة، ويترأسه الفلسطيني "طاهر حمدي كنعان" ويديره "عزمي أنطون بشارة"، وكلاهما من بقايا المدرسة الشيوعية الفلسطينية، وهما أبناء لأكثر الشخصيات جدلاً على الساحة الفلسطينية؛ فوالد عزمي بشارة أعاق سير عمليات جيش "الإنقاذ العربي" عام 1948م حتى صدر حكم الإعدام بحقه، ووالد طاهر كنعان أزعج ملك الأردن الحسين بن طلال بفصل الضفة الفلسطينية عن الأردن حتى نعته البعض بإسم "دايّان" نسبة إلى اليهودي "موشي دايّان".
لذلك لا يمكن فهم "الأزمة الخليجية" بمعزل عن "أزمة الضفتين" على نهر الأردن؛ فالأدوات القطرية المُستخدمة هي ذاتها انتقلت من فلسطين إلى قطر، حيث يمكن القول أن أزمة القطريين مع السعودية هي بمثابة النسخة الثانية من أزمة الفلسطينيين مع الأردن.
إن مشكلة الفلسطينيين مع الأردن تمحورت حول رفضهم للحكم العربي منذ خروج الأمويين العرب من القدس، وقد أزعجهم وأقلق مضاجعهم وصول أسرة الشريف "الحسين بن علي" لبلاد الشام، فمن اغتال ابنه الملك "عبدالله الأول" أثناء صلاته في المسجد الأقصى هم الفلسطينيون الذين لم يدافعوا عن ابنه الملك "طلال بن عبدالله" بعد اتهامه بـ"أسلمة" مدينة القدس عندما وضع حداً لإستحواذ المسيحيين عليها.
ثم خاض الفلسطينيون بعدها حرباً شرسة ضد ابنه الملك "الحسين بن طلال" عبر نشر مجموعة من المصطلحات المدسوسة بمفاهيم الشيوعية واليسارية التي ترمي جميعها أن الأردنيين يحاصرون الفلسطينيين، بينما الحقيقية أن الأردن لم يحاصرهم، بل كان لهم عوناً ضمن المُتسّع من القوانين الدولية، ولكن ما فعله الملك الحسين هو تشييد "الجدار الفكري" ليعزل بلاده وشعبه الأردني عن الفلسطينيين بعدما أدرك أن القبائل الأردنية قد يصيبها وباء "جلد الذات العربية" بعد تغلغل الشيوعية الفلسطينية للأراضي الأردنية.
إن مصطلح "العزلة الإجتماعية" هو "النكزة" الأقوى التي يمكن غرسها بسلاسة في عقول الشعب القطري، لما فيها من تنبيه دقيق يستشعر منه القطريون أن وباءاً فكرياً انتشر بينهم بفعل استراتيجية الأدوات الفلسطينية التي هي سبب عزلتهم عن المجتمع المحيط بهم، وهو خطاب العقل الأفضل بعيداً عن جدلية وضبابية مصطلحي الحصار والمقاطعة.
كما أن مصطلح الحصار المُراد به عند القطريين ليس سياسياً ولا علاقة له بالخسائر الاقتصادية، بل هو منهج تربوي قائم على تأصيل تجارب المدرسة الشيوعية الفلسطينية في الداخل القطري، وهذه المدرسة لا تفتح أبوابها إلا بعد أن تحصر طلابها داخل الأسوار المغلقة، أو بعد أن ينعزل الآخرين عنهم، ثم تبدأ حقبة غرس روح المظلومية المُستوحاة من أساطير الفرس والترك بأن العرب أمة استنزفتها الإمبريالية وغير صالحة للقيادة السياسية والدينية.
لهذه المدرسة أرشيف فيه المئات من المصطلحات الفكرية، جميع تعريفاتها مُشبعة بمفاهيم العداء للعرب لأهداف غير مباشرة، والتي انبثقت من "الماكينة الذكية" العاملة على تفكيك الثوابت المُطلقة وتحويلها إلى مفاهيم فكرية وتعريفات متناقضة وفقاً للمصالح اليسارية والأهداف الشعبوية، وهو ما مهّد لبناء البيئة الخصبة للصراعات بين الشعوب بعد سقوط الثوابت وتعدد المفاهيم في وسط اجتماعي غير مؤهل للتعددية الفكرية آنذاك.
ومن أعظم ما استطاع فعله عرب الشمال هو تفكيك الثوابت الإسلامية وتحويلها لمفاهيم متوافقة مع منظومتهم الفكرية المُستعربة، حيث أصبحت ثوابت عقيدة "التوحيد" تعريفات رجعية ولا قيمة لها في مشروعهم القومي الفلسطيني، بل وأخطر جريمة ارتكبوها هي تفكيك مصطلح إسرائيل من إسم دولة "وفق العرف الدولي" إلى مجموعة من المفاهيم والأعمال، وذلك لغاية بعيدة المدى وهي اسقاط مصطلح إسرائيل كمفهوم فكري على تصرفات بعض الدول العربية دون التعرض لإسرائيل الدولة السياسية.
الرئيس الفلسطيني السابق ياسر عرفات ورفيقه جورج حبش هما من غرس في عقول الشعب الفلسطيني بأن القبلية العربية في الأردن هي النموذج الإسرائيلي فكرياً التي يجب أن نحاربها ونقضي عليها، وما يفعله طاهر كنعان وزميله عزمي بشارة هو النسخة الثانية من محاولات الغرس في عقول الشعب القطري بأن السعودية هي إسرائيل التي يجب أن تنتهي من الوجود.
فما بين الأردن والسعودية هناك متشابهات؛ فبعد إغتيال ابن الشريف الحسين الملك "عبدالله الأول" في القدس، كانت محاولة إغتيال الملك "عبدالله آل سعود" في مكة المكرمة، وبعد رفض أعاجم فلسطين حكم العرب في القدس بدأت محاولة تدويل الحرمين لعودة حكم أعاجم الفرس والترك للمقدسات الإسلامية، والقطريون اليوم يتعلمون فنون الصراخ على المنابر الدينية والإعلامية والثقافية بأن الديانة اليهودية ليس لها علاقة بالصراع العربي الإسرائيلي في حين أن "الوهابية" السعودية هي أداة الصهيونية والسبب الحقيقي في النزاع بين العرب واليهود دون المساس بإسرائيل كمنظومة دولة سياسة وقانون.
إن اختلاف الأدوات وتعدد الوسائل الفكرية وتطورها تكنولوجياً قد يجعل النشأ القطري الجديد معقّداً في تركيبته الثقافية؛ فالفلسطينيون تلقنوا الشيوعية بشكل مباشر دون وسيط، بينما القطريون يشربونها بألوان فقه المُستعجِمين "الإخوان"، وهو الفقه الإسلامي المُستنبطة أحكامه من الأصول الشيوعية وليس من الكتاب والسنة كما يدعون، وهي مهمة ملقاة على عاتق "الإتحاد العالمي لعلماء المسلمين" الذي يبذل جهده في إسقاط جميع الآيات القرآنية المعنية باليهود والنصارى على أسرة "آل سعود"، وهو النموذج الشيوعي الجديد الذي يعود للماكينة الذكية التي تعمل على تفكيك الثوابت بما يتناسب مع كل مرحلة مكانية وزمانية.
إن المدرسة الشيوعية الفلسطينية المُرتدية ثوب "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات" في قطر تعمل الآن في بيئتها الخصبة، وأفضل ما يمكن تسميتها به هو "حاضنة التلقيح الفكري" التي بدأت بتدوير عقول الشباب القطري بعد حصاره من الداخل القطري وعزله عن المحيط الخارجي، وبعد فترة زمنية معينة وعقود من الزمن، سوف نكون جميعاً أمام جيل قطري "مضطرب الهوية" مؤمن بما آمن به الفلسطينيون من قبلهم بأن المملكة العربية السعودية هي إسرائيلهم بالمفاهيم المحرفة كما كان الأردن هو إسرائيل الفلسطينيين.
ما اعتقد به جزماً أن إدارة الحكم القطري التي استعانت بالأدوات الفكرية الفلسطينية ليكون لها نصيب من الهيمنة العالمية كبديل عن المحور السعودي المصري في الشرق الأوسط لم تكن تدرك جيداً الرؤية الحقيقية للأدوات الفلسطينية بعيدة المدى، وهو ما يجب أن يدركه الجميع من القطريين والخليجيين بل وجميع العرب أن الأدوات الفلسطينية تعمل على تفكيك الثوابت الدينية والثقافية إلى مجموعة من المفاهيم المُخلطة، وهي بدورها تعمل على تفكيك الشعب إلى عدة شعوب، ثم البحث عن البنية الثقافية الأضعف لشعب ما ليكون محطتهم وإنطلاقتهم لهدم بقية الشعوب العربية من خلال المفاهيم الملوثة التي غرسوها بين جميع العرب.
وما هو جدير بالتنبيه إليه أن مقالي هذا لا يحمل فيه الإساءة للفلسطينيين وليس للتحريض ضد القطريين، كما ولا يدعو لإثارة الكراهية ضد اليهود وليس من أجل تعزيز نظرية المؤامرة ضد السعودية، بل يحمل في طياته الكثير والكثير، وهي دعوة واضحة لإستنباط فرع جديد وإضافته لعلم الإجتماع العربي للرد على المدرسة الشيوعية الفلسطينية وإمتدادها في لبنان وسوريا، من خلال استخدام ذات الوسيلة التي اتبعوها منذ عام 1919م، ولن ننجح إلا بعد تفكيك الثوابت الفلسطينية إلى عدة مفاهيم كما فعلوا بثوابتنا الدينية والعروبية، وذلك ليس من أجل هدم القضية الفلسطينية فقد هدموها هم قبل عام 1948م، بل من أجل فهم التحركات الجديدة لهذه المدرسة، والتي أخذت تتوجه نحو دول الأعاجم، فمؤتمر كوالامبور الذي سوف ينعقد بعد يومين هو أول مؤتمر ينطلق من وحي "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات"، والذي يحمل هدفاً واحداً ألا وهو نزع المقدسات الإسلامية من العرب سواء كانت في السعودية أو فلسطين.

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

جراجمة القدس

الفسيفساء الفلسطينية

الشؤم الفلسطيني