الانتخابات في جنوب افريقيا.. الأجندة الداخلية

عشرون عاماً مضت على نهاية الفصل العنصري في جنوب إفريقيا، حيث تغلبت فيها الحكومات المُتعاقبة على التحديات التي تعيق نظم الإنتخاب الرئاسي والبرلماني، من أجل تمكين صناديق الإقتراع الشعبية من تعيين رئيس البلاد. ولم تكن مسيرة الديموقراطية نهاية المطاف في جنوب إفريقيا، فكان نتاجها هو تعدد الأحزاب المحلية والتيارات الفكرية.

فقد تصدر حزب المؤتمر الوطني (الحاكم) المشهد السياسي، ثم يليه حزب التحالف الديموقراطي (المعارضة)، وقد أدرك المؤتمر الوطني فوزه في الإنتخابات الرئاسية الأخيرة (2014) بفارق كبير وملحوظ، وهو ما يضمن للحزب الحاكم الفوز في الدورات القادمة. ولكن التوتر ليس ببعيد عن الحزب الحاكم خشية خروج بعض الأقاليم المحلية من دائرته الإنتخابية، وإنضمامها إلى حزب التحالف الديموقراطي المعارض، كما حدث في إقليم الكاب الغربي (كيب تاون). ويرجع ذلك إلى تدني مستوى أداء الحزب الحاكم خلال السنوات الماضية، مما أدى إلى إنشقاقات بعض كبار قادة الحزب، غير قضايا الفساد التي تلاحق كبار أعضاء الحزب الحاكم في جنوب إفريقيا.

وما هو جدير بذكره أن الحزب الحاكم اعتمد منذ نشأته على عقلانية المذهب، والتي تجمع بين الإشتراكية والليبرالية، وقد نجحت الأجندة العقلانية على المستوى الداخلي بعد نهاية الفصل العنصري، وظهرت مؤشراتها على سياسة الحزب الخارجية، وكان نتاجها علاقات سياسية متميزة مع الروس والصينيين، وإقتصاد ينمو مع الأوروبيين والأمريكان.
ولكن في ظل متغيرات الساحة المحلية والعالمية، وقف المؤتمر الوطني أمام جملة من الصعوبات الداخلية، وبعض من التحديات الخارجية المؤثرة على الشأن الداخلي، والتي أخذت تزداد وضوحاً بعد نتائج إنتخابات الرئاسة (2010/2014).



فعلى المستوى الداخلي: ومن أهم المتغيرات التي ظهرت على الساحة الإنتخابية هو عدم ثبات التركيبة الحزبية في جنوب إفريقيا؛ فمؤشر "الإنشقاق" ذو التوجه الفكري هو الأكثر ظهوراً على الساحة الداخلية، وهذا المؤشر سوف يقود جنوب إفريقيا إلى مستقبل جديد خلال العقود القادمة. ويتضح ذلك من خلال المؤشرات الثلاث التالية:

المؤشر الأول: وقد ظهر في دورة إنتخابات (2010)، بعد إنشقاق بعض الليبراليين عن المؤتمر الوطني الحاكم، وتأسيس حزب الشعب، والشاهد هنا هو تفرغ المؤتمر الوطني من الليبرالية النقية. وبذلك يكون المؤشر الأول هو "مؤشر إستقلالية الليبرالية".

المؤشر الثاني: وقد ظهر في دورة إنتخابات (2014)، بعد إنشقاق اليساري المُتشدد (جوليوس ماليما) عن المؤتمر الوطني الحاكم، وتأسيس حزب (مناضلون من أجل الحرية الإقتصادية)، والشاهد هنا هو تفرغ المؤتمر الوطني من اليسارية المُتطرفة. وبذلك يكون المؤشر الثاني هو "مؤشر إستقلالية اليسارية المُتطرفة".

المؤشر الثالث: وقد يظهر في دورة إنتخابات (2018)، في حال إنشقاق إتحاد العمال (كوساتو) عن المؤتمر الوطني الحاكم، وتأسيس حزب العمال الإشتراكي المعتدل، والشاهد هنا هو تفرغ المؤتمر الوطني الحاكم من الإشتراكية المعتدلة، وبذلك يكون المؤشر الثالث هو "مؤشر إستقلالية الإشتراكية المعتدلة". وإحتمالية وقوع المؤشر الثالث وإنشقاق (كوساتو) قد يكون إضطراراً من أجل التوفيق بين مصالح الملايين من العُمال الذين يعملون في القطاع الخاص المحلي والأجنبي، وتأسيس حزب إشتراكي معتدل ليكون حصانة لمستقبل جنوب إفريقيا بعد تحقيق التوازن بين حقوق العمال وبقاء جنوب إفريقيا جاذبة للإستثمار الأجنبي، كما أن الإشتراكية المعتدلة هي الحل الأفضل لكبح اليسارية المُتشددة في جنوب إفريقيا.

وعلى الرغم أن إتحاد عمال جنوب إفريقيا (كوساتو) ما زال هو مفصل الصمود الأقوى للمؤتمر الوطني أمام جميع هذه التحديات، إلا أنه ليس هناك ضمانات قوية لبقاء كوساتو تحت مظلة المؤتمر الوطني الحاكم.

ويُمكن القول أن جميع المؤشرات تشير نحو مستقبل حزبي جديد، يبدأ بتفرغ المؤتمر الوطني من الأفكار السياسية المُتخصصة، وأن المؤتمر الوطني لم يعد قادراً على إحتواء جميع التيارات الفكرية التي يتبناها المواطنون السود، وهذه الإنقسامات ما هي إلا خطوة من مجموعة خطوات سوف تقود إلى مستقبل جديد لجنوب إفريقيا؛ فمستقبل الحياة السياسية أصبح رهينة الإنشقاقات في صفوف المؤتمر الوطني، والتي أخذت قوالب فكرية جديدة، وعلى شكل أحزاب واضحة المعالم والطريق.

إن الخطأ الذي وقع فيه المؤتمر الوطني الحاكم منذ تولي الرئيس الأسبق نيلسون مانديلا هو إعتماده برامج النضال، فكانت القيادات الحزبية موزعة على مراتب ودرجات النضال في حقبة "الأبرتهايد" العنصرية، ولا شك أن هذه الخطوة ما زالت تحقق النجاح، ولكن أخذت تتباطء بعض الشيء أمام المعارضة التي توافقت قياداتها على أسس تركيبة الحزب القائمة على الكفاءات العلمية وفق متطلبات تطوير البرامج التنموية الداخلية حسب الإحتياجات والمتطلبات الداخلية.
خلاصة القول حول الشأن الداخلي، أن المعارضة أخذت بالوصول الحقيقي إلى الطبقات المتوسطة من السود والبيض، وهو مؤشر تقدمه بين الأوساط الشبابية. كما أن وصول الأبيض الجنوب الإفريقي إلى منصة الحكم من جديد خلال العقود القادمة مرهون بتمسك المؤتمر الوطني بالأجندة النضالية؛ فالأجيال الجديدة أخذت تبحث عن الإقتصاد وفرص الحياة الكريمة، ولم يعد النضال بالنسبة لهم إلا حقبة ليس لها مكان إلا في كتب التاريخ وليس مبنى الإتحاد الرئاسي الجنوب إفريقي.

وعلى مستوى التحديات الداخلية المتأثرة بالشأن الخارجي، حيث تركيبة الأحزاب الجنوب إفريقية تقوم على أسس عرقية واضحة؛ فالمؤتمر الوطني الحاكم ذو الأغلبية السوداء مع ميل بعض من الأقلية الإسلامية له، والتحالف الديموقراطي المعارض ذو الأقلية البيضاء مع ميل بعض من الأقلية اليهودية له. وهذه التركيبة العرقية لها دور واضح في تواصل الأحزاب المحلية مع بعض الدول الخارجية وفق مصالح سياسية قائمة على التوافق العرقي. كما أن خلو الدستور الجنوب إفريقي من نص يمنع قبول الأحزاب المحلية الدعم الخارجي قد ساعد على تفاقم ظاهرة التواصل الحزبي مع الخارج.
ولكن تتوجه الأنظار العربية لقراءة هذا الشأن من خلال زاوية وضع القضية الفلسطينية والشأن المصري ضمن أولويات الأجندة الداخلية لحزب المؤتمر الوطني الحاكم، حيث اشتد خطاب الحزب تضامناً مع الشعب الفلسطيني، ورفضه للإنقلاب العسكري على الرئيس المعزول محمد مرسي في مصر.

 وقد تكون هذه المرة الأولى، فالحزب الحاكم يقولها صراحةً أن حزب المعارضة يتلقى دعماً مالياً من رجال أعمال يهود، والمعارضة لم تنف، بل أوضحت للشعب أن يهود جنوب إفريقيا كان لهم دور بارز في دعم الرئيس الأسبق مانديلا للتخلص من الفصل العنصري.

والأقلية الإسلامية ليست بعيدة عن المشهد والتي صرح بعض من مجالسها تضامنهم مع الحزب الحاكم، فمسلمو جنوب إفريقيا متعاطفون بشدة مع حقوق الشعب الفلسطيني، ورافضون لعزل الرئيس المصري محمد مرسي.

لا أستطيع القول أنه هناك توتر بين الأقليات في جنوب إفريقيا، وما يحدث لا يخرج عن منافسة كلامية في الإنتخابات الرئاسية، ولكن قد يحدث التوتر في حال تبني بعض الأحزاب المحلية برامج إنتخابية في المستقبل تقوم على تطلعات السياسة الخارجية دون الإهتمام بالبرامج التنموية الداخلية.
وتوتر الأقليات في جنوب إفريقيا سوف يكون له تأثير مباشر على القارة الإفريقية؛ فاليهود ذوو إمتداد إقتصادي قوي على مستوى القارة الإفريقية، كما أن مسلمي جنوب إفريقيا ذوو امتداد عقائدي مؤثر على جنوب ووسط القارة الإفريقية، غير أن الحزب الحاكم يتمتع بإمتداد سياسي أخذ يحقق سيطرته على القارة الإفريقية بأكملها بدعم من روسيا والصين.

ويبدو أن المؤتمر الوطني الإفريقي وضع القضية الفلسطينية والشأن المصري ضمن أولويات أجندته الداخلية بسبب فقدان جزء كبير من جمهوره القائم على الفكرة النضالية داخل الجنوب الإفريقي، فقد اضطر إلى البحث عن برامج نضالية خارجية من أجل ملء فراغ لم يعد موجوداً في جنوب إفريقيا.


ومن الملاحظ أن المؤتمر الوطني لم يضع قضية فصل الصحراء المغربية على جدول أولوياته الإنتخابية لهذا العام كفلسطين ومصر، ويرجع ذلك إلى عدم تعاطف مسلمي جنوب إفريقياس مع القضية الصحراوية، كما أن إنشقاق اليسارية المُتطرفة عن المؤتمر الوطني وهم جمهور فصل الصحراء المغربية أخذ يُمزق ملف فصل الصحراء المغربية في الداخل الجنوب إفريقي.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

جراجمة القدس

الفسيفساء الفلسطينية

الشؤم الفلسطيني