كراهيتهم للعربية !
لم يتقبل الفلسطينيون ما أوجزته في وصف هويتنا الفلسطينية التي عرّفتها بـ"الهوية المضّطربة"؛ لفهمهم الخاطئ أن الإضطراب أبعاده تتعلق بالطب النفسي، بينما مفهوم استقرار الهوية أو اضطرابها يرجع لنوع الحاضنة لأركانها أو عناصرها الخاصة بها.
قد تختلف أركان الهوية من بلد إلى آخر، "ووفق تقديري الخاص" أن هذه الأركان وخاصة عند العرب والمسلمين تتمحور بين ثلاثٍ وهي "الأرض واللغة والدين"، كما ليس من الضرورة أن تتوافق أركان الهوية العربية مع بقية الأمم من غير العرب، فهوية جنوب إفريقيا قائمة فقط على الأرض المتعددة، فتخصيص الأرض لعرق أو للغة أو لدين هو بمثابة إنهيار لدولة جنوب إفريقيا.
إن مقارنة ترتيب أركان الهوية الإسرائيلية بالأركان الفلسطينية ضرورة لفهم الأولويات اللازمة لنشأة الدولة بما يتناسب مع معطياتها اللازمة لها، حيث بدأ اليهود بتغذية الركن الديني روحانياً ثم تفعيل الركن اللغوي لحماية الدين، وبعد قيام دولة إسرائيل أصبحت أرض فلسطين هي الحاضنة والغلاف الحامي لركني اللغة العبرية والدين اليهودي.
وبعد أن ضاعت الأرض من الفلسطينيين، أعلنوا دولتهم قبل التحرير على أرض لم تعد لهم، بل وجعلوها الغلاف الحامي لركني اللغة العربية والدين الإسلامي، وفاقد الشيء لا يعطيه، مما أثّر سلباً على الشخصية الفلسطينية التي هي اليوم بمثابة الأرض المفقودة، لذا الفلسطينيون شتاتهم فكرياً أكثر ما يكون ديموغرافياً وجغرافياً. إذن؛ إضطراب الهوية الفلسطينية يرجع لإختلاف ترتيب أولويات الهوية الفلسطينية.
وليس بعيداً عما هو بين العرب والعجم من اختلاف ترتيب أولويات أركان الهوية الإسلامية الجامعة بينهم؛ فكلاهما متوافقان على العناصر المشتركة "الأرض واللغة والدين"، ولكن العجم ما زالوا يعتقدون أن الدين هو الحاضنة لأركان الهوية "الأرض واللغة" وفق نموذج دولة الخلافة الإسلامية.
بينما يميل العرب لتكون الأرض هي الحاضنة لأركان الهوية "اللغة والدين" وفق مفهوم الدولة القومية المعاصرة بعد خروج الأتراك من البلاد العربية. والتوجه العربي الجديد لا يتعارض مع مقاصد عقيدة "التوحيد" التي تسمو إلى لفت الأنظار لمن هو على العرش (استوى) وليس لمن هو على الارض (استولى)، مع مراعاة الأحكام الخاصة للنظم السياسية في الفقه الإسلامي.
إن الخلاف بين العرب والعجم وخاصة مع مسلمي آسيا يرجع إلى ما قبل ظهور الإسلام، حيث كانت جميع الهويات العالمية قبل وبعد إنتشار الإسلام قائمة على "الحواضن الدينية"، فكانت هوية الأرض "الدولة" وحدودها الجغرافية تُعرف بدين سكانها، وعندما اعتنق الآسيويون الدين الإسلامي كان هذا بذاته انسلاخاً من الهويات الآسيوية "اللادينية" والإرتماء بأحضان الهوية الإسلامية ذات الطابع العربي التي مقرها البلاد العربية.
وفي الوقت الذي انفصل فيه العرب عن حكم الأتراك، أصبحت المعتقدات الدينية كالبوذية والهندوسية دولاً جديدة، وهي قوميات مُلزمة لبعض مسلمي آسيا بالإنتساب لها بتبعية الهوية السياسية لا العقائدية وفق القوانين الدولية.
إن الأسباب الحقيقية وربما الخفية لجميع القضايا الشائكة عند مسلمي آسيا ترجع إلى عدم رغبتهم بالإندماج أو العودة من جديد إلى الهويات الآسيوية "الأم"، ويمكن استعمال عامل "الهجرة الآسيوية" إلى أوروبا كمؤشر لقياس صحة العلاقة بين العجم وأركان هويتهم في بلاد المهجر.
وقد تعطينا المقارنة بين الفلسطيني والهندي الصورة الأوضح والأمثل؛ فالفلسطيني بعد حصوله على الجنسية الأوروبية يُعرف نفسه بقول "فلسطيني بريطاني"، بينما الهندي يفصل هويته الجديدة عن القديمة بقول "بريطاني مسلم". والأرجح أن جميع الآسيويين من المسلمين وغيرهم لا يتحدثون لغاتهم الأم بعد الهجرة بعكس الفلسطينيين الذين يتحدثون العربية في مهجرهم على الأغلب.
إذن يمكن القول بأن الخلاف بين العرب والعجم بدأ بإختلاف ترتيب أولويات أركان الهوية الإسلامية المشتركة، ولكن بعد إنفصال العرب عنهم سياسياً لا عقائدياً، وبعد مرور عدة عقود دون الإنتباه إلى الأسباب الإجتماعية التي منعتهم من التبعية للهوية غير الإسلامية في بلدانهم، انهارت بعض مفاهيم الوطن في العقل الآسيوي المسلم.
وبذلك لم يبق لهم من الهوية الإسلامية إلا الدين فقط، حيث لم يعد الوطن بالنسبة لهم هو "أرض الإسلام" وفق المفهوم الخاطئ، كما ولم تعد اللغة الآسيوية "الأم" محل تقدير وإهتمام لإرتباطها بالدولة البوذية أو الهندوسية.
وهو الحال الذي مهّد وسهّل دخول أعداء العرب من الفرس والترك عبر منظمات "الإخوان المستعجمين" الذين استطاعوا اختراقهم بسلاسة عبر ترسيخ المفاهيم الدينية الخاطئة بأن الهوية الإسلامية العجمية منقوصة، ولن تكتمل إلا بعودة الخلافة الإسلامية لتكون أرض الإسلام الحاضنة لركني اللغة والدين.
وربما في مشكلة أفغانستان درس لابد أن نفهمه جيداً، حيث أرسل الإخوان المستعجمون الفلسطيني "عبدالله عزام" المتخصص في حربه ضد الشيوعية الفلسطينية إلى أفغانستان، وبعد أن تتلمذ على يده السعودي "أسامة بن لادن" في أفغانستان، عاد إلى السعودية ومعه خبرات الحرب ضد الشيوعية لتطبيقها في السعودية، وكأن أفغانستان كانت فقط محطة تجريبية لإعادة تدوير ونقل معركة الهوية الآسيوية المضطربة إلى الأرض السعودية، كما يحاول البعض نقل مشكلة بورما ومسلمي الصين إلى السعودية.
والشاهد هنا أن كراهية العجم غير الناطقين بالعربية للعرب الناطقين بالعربية هي مشكلة إجتماعية نشأت في بلادهم الآسيوية نتيجة الفهم غير الصحيح لعقيدة التوحيد. وبعد توظيف هذه المفاهيم الخاطئة ضد العرب بأنهم السبب وراء فقدان العجم هويتهم الإسلامية، تفاقمت هذه الكراهية وامتدت إلى الكثير من عوام العرب الذين أخذوا يحقرون ذاتهم فقط لأنهم عرب، وربما فقط لأن السعودية أرض عربية وليست أرض الإسلام بعد أن تخلت عن المسلمين في آسيا وغيرها من القارات على حد زعمهم.
تعليقات
إرسال تعليق