‏تصدير الثورة الفلسطينية


عادة ما تلتزم حركة "فتح" المُتربعة على عرش السلطة الفلسطينية الصمت تجاه تصريحات "حماس" المُعادية للدولة السعودية، أو ينحصر تنديدها فقط على مواقع التواصل الإجتماعي من شخصيات غير محسوبة رسمياً على السلطة الفلسطينية، بينما يكون رفضها واستنكارها لتصريحات حماس المُعادية لإسرائيل وأحياناً مصر العربية على كافة القنوات الرسمية الفلسطينية السياسية والإعلامية.
‏ورغم أن كافة تصريحات حماس السابقة كانت موالية لإيران بالوجه الخجول والاستعطاف بإسم المقاومة الإسلامية لتحرير فلسطين، لكن بعد قبول حماس رفع شعارها في المؤتمر الصحفي للحرس الثوري الإيراني كشريك للإنتقام من السعودية بعد مقتل قاسم سليماني لم يعد الأمر اعتيادياً يسهل المرور عليه كما سبق.
‏نحن اليوم أمام حقبة جديدة من التوازنات الحزبية الفلسطينية القائمة على التركيبة الفلسطينية الفكرية والمناطقية "العرقية"، ولكن ما يعيق فهمنا لهذه التراكيب هو تغلغل اليساريين في مؤسسات الإعلام الخليجي وتغافلهم "قصداً" لدور الجبهة الشعبية الفلسطينية في تحقيق التوازن الفكري بين حركتي فتح وحماس بما يخدم أجندتها على مستوى بلاد الشام وخاصة فلسطين.

‏………………………

‏لم تنشأ الأحزاب الفلسطينية من أجل مشروع دولة الفلسطينيين القومية بقدر ما هي مجتمعة للعمل على تنفيذ فكرة مشروع "التصحيح الفكري" للدولة القُطرية العربية خارج الإطار الفلسطيني وفق قالبها المُبطن بالشيوعية المتعدد الأشكال، بما يتناسب مع الأفكار السائدة في الوطن العربي.

‏إن القيادات الفلسطينية بمختلف مستوياتها الفكرية ما بين اليسارية وقد تصل للإسلامية، انبثقت من الحزب الشيوعي الفلسطيني عام 1919م، والذي أسسه اليهود الشرقيون لتنظيم وحفظ حقوق العمال الفلسطينيين في المزارع اليهودية آنذاك. وبعد إعلان قيام دولة إسرائيل، تم توزيع الفلسطينيين على مجموعات من المليشيات العسكرية في الدول المجاورة، بعضها كان موالياً للشيوعية العراقية والآخر للشيوعية السورية.

‏كانت جميع الأحزاب الفلسطينية حينها ضمن التوازن الفكري المرسوم لها لنشر الشيوعية في الجزيرة العربية لإعتقادهم أنها تلوثت بالرجعية الدينية، وبعد انتشار الإسلام السياسي في المنطقة العربية، نشأت حركة "فتح" لتوحيد الشيوعيين والإسلاميين تحت لواء علماني يساوي بين الفكر الإسلامي والفكر الشيوعي على درجة متساوية مع تجريم تفضيل أحدهما على الآخر.

‏حيث انضم الشيوعيون تحت لواء "ياسر عرفات" الذين تمركزوا في الكويت بالقرب من الشيعة الموالين لإيران، بينما انطلق نائبه "جهاد الوزير" للعمل في حقل التدريس بالسعودية، والذي رافقه مجموعة الإسلام السياسي الفلسطيني، حيث استطاع "الثنائي الفلسطيني" إعادة ترتيب التوازنات الحزبية الفلسطينية بعد إضفاء الصبغة الدينية على التحركات الفلسطينية في دول الخليج العربية من أجل تلميع الفكر القومي الشيوعي بين شباب الإخوان الخليجي بما يتناسب مع الأفكار الصحوية الناشئة في الوطن العربي حينها.

‏وليس صحيحاً ما يعتقده البعض أن انشقاق "الجبهة الشعبية الفلسطينية" وخروجها من منظمة التحرير الفلسطينية كان بعد تطبيع السلطة الوطنية الفلسطينية مع إسرائيل، بل أن جوهر الخلاف يرجع لأدبيات الجبهة الشعبية الفلسطينية التي رفضت الخروج عن أسس الحزب الشيوعي الفلسطيني الذي انعقدت عقيدته على تقديس "التطبيع الشيوعي" بين الفلسطينيين واليهود لمحاربة الرجعية العربية في الجزيرة العربية إنطلاقاً من الأردن كمحطة تجريبية.

‏وعلى الرغم من انسحاب الجبهة الشعبية من العمل السياسي إلا أنها حافظت على موقعها فوق رأس هرم جميع الفصائل الفلسطينية بعد أن استحوذت على قطاع التربية والتعليم ومنصات الإعلام الفلسطينية، غير حضانتها للمخيمات الفلسطينية في الأردن وسوريا ولبنان.

وقد يكون هذا تقديراً لدور الجبهة الشعبية في حفظ الثوابت الشيوعية؛ حيث خصصّت السلطة الوطنية الفلسطينية لعناصر الجبهة الشعبية الكثير من المقاعد الدبلوماسية في السفارات الفلسطينية داخل الوطن العربي وخارجه، وهي أشبه بالملاحق الثقافية التي تعمل على تصدير الثورة الفلسطينية الشيوعية بثوب دبلوماسي خفي.

‏حيث ما زال الكثير من الفلسطينيين يثمنون دور الجبهة الشعبية في حفظ ما ورثه الفلسطينيون من "جورج حبش" مؤسس الجبهة الشعبية الفلسطينية الذي ما زال يحمل لقب "حكيم الثورة الفلسطينية"، لذلك عادة ما تكون تصريحات الجبهة الشعبية أشبه بالمواعظ التي تحثهم على ترك المنكرات الليبرالية.

‏ولكن بعد صعود حركة حماس على منصة المقاومة الفلسطينية، بدأت جميع التوازنات الحزبية الفلسطينية بالإضطراب، حيث لم تأتِ حماس بجديد فكري يمكن ربطه أو موازنته مع الإرث الفلسطيني السابق، ويرجع السبب إلى أن نشأة حركة حماس كان لغاية عرقية لا علاقة لها بالدين ولا بالسياسة؛ فالغزيون يرفضون الخضوع لقيادة الضفة الغربية، بل ويرفضون الإنتساب لقومية فلسطينية تجمعهم مع عرب إسرائيل، والإختلاف فيما بينهم شاسع في الثقافة والعادات والتقاليد حتى وصل إلى حد رفض المصاهرة فيما بينهم.

‏وهنا اضطرت الجبهة الشعبية الفلسطينية من أجل الحفاظ على الثوابت الفلسطينية التي أقرها الحزب الشيوعي الفلسطيني عام 1919م إلى خلق حقبة فكرية جديدة بالشراكة مع حركة حماس وبما يتوافق مع الفكر الإخواني، والتي تعرف اليوم بـ"جبهة الرفض" التي يُسميها الشيوعيون بالممانعة للإمبرليالية، بينما يُسميها الإسلاميون بجبهة رفض التطبيع مع الصهوينية. وقد تعدد التسميات وفقاً لأسس الأيدولوجيات الحزبية، ولكن جميعها انطلقت من النهج الشعبوي الذي ينص على تفضيل العجم على العرب.

‏وهنا أدركت حركة فتح أنها أخذت تميل لمنحنى الإنهيار في الضفة الغربية وأن دولة فلسطين لن تخرج عن حدود قطاع غزة وفق ما هو المرسوم للفلسطينيين دولياً، لذلك اضطرت على أقل تقدير أن تلتزم الصمت تجاه تصريحات حماس المعادية للسعودية حفاظاً على مكانتها في "بروتوكولات حكماء فلسطينيون" التي ما زالت مفاتيحها بقبضة الجبهة الشعبية الفلسطينية الشيوعية الراعية لجميع أقوال وأفعال حركة حماس.

‏والخلاصة هنا أن الثورة الفلسطينية قامت على مجموعة من الأفكار ذات قيم لا علاقة لها بتحرير فلسطين؛ فالمصطلحات المعمول بها إعلامياً مُبطنة بالعديد من المفاهيم جميعها منصوبة ضد العرب وليست على خط الهجوم لتحرير فلسطين.

‏فالقيمة الحقيقية للشيوعية الفلسطينية هي القضاء على القبلية العربية تمهيداً لغرس أعاجم بلاد الشام في الجزيرة العربية كإعلاميين ومفكرين بعد تعريبهم وفق المفهوم الحقيقي للقومية العربية. بينما المراد من مفهومي الممانعة والتطبيع هو فقط حصر الصراع بين الفلسطينيين والإسرائيليين للحفاظ على مكتسبات التطبيع الشيوعي بين الفلسطينيين واليهود ما قبل قيام دولة إسرائيل عام 1948م، أو خوفاً من نجاح "التطبيع الليبرالي" بين العرب وإسرائيل.

‏إن مقارنة الثورة الفلسطينية بالثورة الإيرانية أمر في غاية الأهمية، حيث لم يتم الإنتباه لها منذ عدة عقود مضت؛ فالثورة الإيرانية قامت بتصدير أعمال وأفعال "المليشيات المقاتلة" في حين صدّرت الثورة الفلسطينية أقوال ونظريات "المفاهيم والمصطلحات".

والفرق بينهما هو إختلاف ترتيب الأولويات ليس أكثر. فجميع معارك الفرس في بلادنا العربية كانت لتعجيل ظهور المهدي الذي سيأتي ومعه الدين الإسلامي الصحيح، ومن ثم يبدأ الفرس بفرض المفاهيم والمصطلحات التي يعتقدون أنها تصحيحٌ لفهم العرب المغلوط عن الدين الإسلامي، بينما بدأ الفلسطينيون بتصدير المفاهيم والمصطلحات بالنيابة عن المهدي الفارسي قبل خروجه لتصحيح فهم العرب المغلوط عن الدين الإسلامي. فالفرس يُقاتلون بينما الفلسطينيون يُنظِرون، وإن اتفق الطرفان على أن ما عند العرب من دين وثقافة غير صالح للعقل البشري ويجب العمل على تغييره.


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

جراجمة القدس

الفسيفساء الفلسطينية

الشؤم الفلسطيني