حلال فوبيا

لم تكن فتوى خامنئي بتحريم اللقاحات الطبية المصنوعة في بلاد غير المسلمين وليدة فكرة جديدة، بل هي مرتبطة بسلسلة فتاوى حول الطعام والشراب، والتي جدفها الخميني بعد توليه السلطة عام 1979 إلى شبكته العنكبوتية التي وقع فيها المسلمون السّنة أكثر من الشيعة أنفسهم تحت مسمى الإقتصاد الحلال.

هذه الفتوى ليست عابرة بسذاجتها ليتداولها النشطاء العرب بالتهكم مثلما تناولنا الفتاوى الشيعية بالسخرية حول تحريم بعض الأطعمة بسبب عدم موالاتها لأهل البيت.

إن الشريعة الإسلامية لها العديد من الأدبيات، من روائعها وهي مجتمعة بروح واحدة أنها لا تقبل الدونية بالإستهزاء لمذهب أو طائفة أو دين للتقليل من شأنهم، كما أن السطحية الفكرية تعمل على تضليل العقل العربي دون تقدمه بعمق للبحث عن الحقيقة بأسبابها وأهدافها.

الطعام الحلال:

أوضحت الشريعة الإسلامية باليُسر والمرونة فقه الحلال والحرام في المأكل والمشرب وفق فلسفة مرتبطة بمصلحة الإنسان الصحية التي أباحت طعام اليهود والمسيحيين. ورغم الإٍستثناءات القليلة، إلا أنها أباحت المواد المُستخرجة من اللحوم المحرمة بعد إستحالتها بالكلية، بمعنى تحول مادة الخنزير المحرمة لضررها إلى مادة مباحة لمنافعها في صناعة الغذاء والدواء.

إن الخطاب الإسلامي حول المباح والمحرم من المأكل والمشرب لم يكن موجهاً للمسلمين فقط، بل هو أشبه بمنظومة طبية لوقاية البشرية من الأمراض والأوبئة، حيث اقتضت الضرورة توحيد آداب الطعام والشراب من المنظور الصحي أكثر من كونه فقهاً تعبدياً يحتكره المسلمون فقط، حيث لم ينفع الصحابة الكرام ما يأكلونه من الطعام الحلال بعدما اختلطوا بالروم في فلسطين التي انتشر فيها الطاعون الذي لم يفرق بين آكل الحلال وآكل الحرام.

حلال الخميني:

نشرت عالمة الأنثروبولوجيا الفرنسية فلورانس بلاكلر في كتاب أوروبا الغربية 2017 أن مصطلح الحلال المعروف اليوم بـ"سوق الحلال" لا علاقة له بالدين الإسلامي، وإنما ابتكرته العولمة بعد التقاء النيوليبرالية العربية مع الأصولية الخمينية للسيطرة على الأسواق العربية والإسلامية.

وأضافت، أن فكرة سوق الحلال ظهرت بعدما أفتى الخميني بتحريم استيراد اللحوم من الدول الغربية، وهي الفتوى الأولى التي نصت على تحريم طعام اليهود والمسيحيين بالشكل المطلق على مر التاريخ الإسلامي، إلا أن هذه الفتوى لم تلق شعبية واسعة في الداخل الإيراني وقتها.

اضطر الخميني حينها للتوجه إلى استراليا ونيوزيلاندا لتوقيع عقود تجارية لفتح خطوط إنتاج الذبح الإسلامي تحت إشراف لجان إيرانية لمراقبة آليات الذبح على الطريقة الإسلامية. وأضافت الباحثة بلاكر أن المؤسسات التجارية العربية أخذت تتسابق لفرض منافستها وتحقيق الأرباح.

خلال الـ 30عاماً الماضية، انتشرت منظمات صناعة الحلال التي استحوذ عليها المسلمون السّنة وليس الشيعة، ولكن وفق مفهوم الخميني الذي فرض على مصانع الغذاء والدواء، حتى وإن كانت خالية من المحرمات، شراء طابع مكتوب عليه كلمة "حلال" لإلصاقه على منتجاتها كصك إباحة هذه المنتجات للإستهلاك الإسلامي.

تجربة جنوب إفريقيا:

تناولت أطروحة دكتواره "قيد النشر" تأثير العلامة التجارية "حلال" على هوية الأقلية المسلمة التي اضطربت في جنوب إفريقيا قرابة الـ 300 عام مضت بعد هجرة الأندونيسيين إلى رأس الرجاء الصالح عام 1690، حيث أن معاناة الأندونيسيين كانت بتناولهم الطعام الردئ الذي فرضته عليهم السلطات الهولندية في جنوب إفريقيا، غير اللباس والدواء بما لا يتناسبان مع المتطلبات الصحية.

أشار الباحث إلى أن مطالبتهم بالطعام الحلال لم يكن لرفضهم طعام المسيحيين بالشكل المفهوم حالياً، بل من أجل أن يعيشوا حياة المسيحيين الذين يأكلون الطعام النظيف. أو يمكن القول أن المفهوم العميق لمصطلح حلال قبل 300 عام في جنوب إفريقيا هو العدالة الإجتماعية والمساواة في الطعام والشراب واللباس.

احتاجت الهوية الإسلامية الكثير من المصطلحات الفكرية لتعبئتها في عقول المسلمين خوفاً من إنغماسهم في الحضارة الأوروبية بعد إنتهاء الفصل العنصري عام 1993، من أجل تجديد الخطاب الديني الذي لم ينجح نوعاً ما بسبب التضارب بين التبعية للتقاليد الإندونيسية والهندية والإنبهار بالشيوعية التي كان لها الفضل في تحرير جنوب إفريقيا.

حرص رجال الدين الإسلامي في جنوب إفريقيا على تغليف عقول الشباب المسلم بإطار فكري جديد من خلال تجسيد معاناة أجدادهم مع الطعام غير النظيف في عهد الفصل العنصري، لتحريض طلاب المدارس الإسلامية على رفض تناول طعام المسيحيين واليهود وعدم مخالطتهم لهم على موائد الطعام.

اتسعت الهوة إلى مرحلة رفض شراء كافة منتجات المؤسسات الغذائية المحلية التي لا تدفع ضريبة ملصقات "حلال" للمؤسسة الدينية، التي أخذت بدورها فرض رسوم مالية على المؤسسات التي لا علاقة لها بالمواد الغذائية لتوسعة نفوذها على أسواق جنوب إفريقيا.

إن العلامة التجارية "حلال" أصبحت بمثابة هوية إسلامية في الجنوب الإفريقي، وهي النتيجة التي انتهت بها أطروحة الدكتوراه، أن المجتمع الإسلامي في جنوب إفريقيا استعان بمصطلح "حلال" الفقهي وعمل على تطويره وتوسيع مفاهيمه إجتماعياً وإقتصادياً ليحل محل الهوية الأم التي فقدوها بعد هجرتهم من إندونيسيا والهند.

لا شك أن الهوية الإسلامية تعاني اليوم إضطراباً إيدولوجياً حاداً في جنوب إفريقيا بسبب حصر متطلبات الروحانية الإسلامية بين المسجد التقليدي والسوق التجاري "حلال"، وهو المفهوم الجديد الذي انتشر في جنوب إفريقيا عند غير المسلمين، أن العلامة التجارية "حلال" هي الحضارة المادية الحديثة للإسلام الهندي المأخوذ من الطقوس الهندوسية.

حلال فوبيا:

لا شك أن تجربة جنوب إفريقيا سوف تفيدنا في القدرة على التنبؤ بمستقبل المهاجرين العرب إلى أوروبا والأمريكيتين من خلال فهم الإضطراب الذي تعيشه الهوية العربية هناك بسبب رعاية المنظمات الإسلامية غير المتخصصة بالعلوم الإجتماعية بشؤونهم الحياتية.

عملت هذه المنظمات وفق تزامنية فكرية متناقضة، وهي منع المهاجرين من الإختلاط بالمجتمعات الأجنبية وتناول طعامهم، مع منعهم من صوم شهر رمضان والإحتفال بعيدي الفطر والأضحى وفق التاريخ الهجري الذي تعتمده السعودية كل عام. هذه التزامنية أفقدت الشخصية المسلمة تواصلها مع الوطن العربي الأم، مثلما قلّلت من قدراته على التواصل مع المجتمع الذي يستضيفه.

هنا اضطرت الشخصية المسلمة المغتربة إلى خوض معركة جديدة بنوعها الفكري، أو يمكن تسميتها بظاهرة "حلال فوبيا"، وهي معركة "الحلال غير المباح" من خلال البحث عن المباح من الحلال نفسه. بمعنى أن الحلال لا يكون مباحاً إلا بصك مكتوب عليه "حلال" مدفوع الثمن للمؤسسات الدينية لإباحة شرائه من أسواق غير المسلمين.

وهي أشبه بالقاعدة الفقهية المُستحدثة، التي تنص على تحريم المباح للإستحواذ على الحلال، بمعنى تحريم المباح في العلاقة بين المسلم وغير المسلم للإستحواذ على الحلال كله، لإعادة توزيعه على المهاجرين على شكل "صكوك الإباحة" التي يدفع ثمنها المؤسسات الصناعية والتجارية المملوكة لغير المسلمين.

الحلال الوقائي:

على الرغم أن الرعاية الفكرية لهذه الفتاوى إيرانية المنشأ، إلا أن جميع العاملين في هذه المنظمات هم المسلمون العرب والآسيويون المنتسبون لمذهب السّنة، حيث المكان الذي ترمي فيه إيران مخططاتها النظرية، ثم يتوافد الشباب العربي على ساحة التنفيذ بالنيابة عن الإيرانيين.

لنتذكر معاً فتوى الخميني الذي أفتى فيها بقتل الكاتب الإيراني سلمان رشدي مؤلف كتاب آيات شيطانية بحجة ردته عن الإسلام، حيث لم يُنفذها الإيرانيون، بل راح ضحية هذه الفتوى عشرات الآلاف من الشباب العربي الذين انخرطوا في ساحات القتال بأفغانستان والعراق وسوريا بعدما انغرست في عقولهم فتوى قتل المرتد.

لقد عملت هذه الفتاوى الإيرانية على خلق منظمات إسلامية منتشرة في جميع أنحاء العالم، وهي مستقلة بذاتها إدارياً ومالياً من خلال الفتاوى مقبوضة الثمن دون الحاجة للإرتباط بالمنطقة العربية، وهي الغاية بعيدة المدى التي أسّس لها الخميني لخلق فجوة بين المهاجرين العرب والآسيويين إلى الأمريكيتين وأوروبا وبلادهم الأم.

إن إتباع مناهج البحث العلمي لكافة القضايا ذات الخطاب الجماهيري هو الطريق الأمثل لطرح المشكلة من جذورها الفكرية بما يتناسب ويتوافق مع جميع العقول من كافة الطوائف والأديان، وليس طرحها على ساحة الغرائب والعجائب لإثارة السخرية والتهكم من الآخرين التي لن تجدي إلا الكراهية والتعصب.

ليس المطلوب ملاحقة هذه المنظمات ومطاردة إداراتها، بل التواصل معها لتزويدها بخبراء العلوم الإجتماعية وليس الفقهية من أجل إسترجاع المفهوم الصحيح لفقه الحلال والحرام في الطعام والشراب، الذي هو من أجل الوقاية الصحية للبشرية جمعاء، ومن أجل أن نتوافق نحن جميعاً مسلمين ويهوداً ومسيحيين على منظومة غذائية وقائية كأهل كتاب، من أجل إنقاذ البشرية من الأمراض والأوبئة العابرة دون التفريق بين مسلم وغيره.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

جراجمة القدس

الفسيفساء الفلسطينية

الشؤم الفلسطيني