المشكلة الأوكرانية (2).. سيادة الدولة والأمن الإقليمي
كل دولة عضو في الأمم المتحدة، مستقلة ذات سيادة، لها حق
رسم سياساتها الداخلية والخارجية، والقوانين الدولية تكفل لها هذا الحق من خلال منع
أي تدخل مباشر أو تأثير غير مباشر على قراراتها السيادية من دول خارجية وخاصة دول
الجوار.
لهذه المادة القانونية دور كبير في الحد من فوضى الحروب
بعد الحرب العالمية الثانية، وهي الغطاء القانوني لحماية جميع الدول المنتسبة
للأمم المتحدة، وخاصة الدول ذات المساحات الصغيرة، في حين أنها كانت عقبة بالنسبة
للدول الكبيرة التي ترغب بالتوسع الجغرافي عبر بعض الدول المستقلة الصغيرة في
جوارها.
وللالتفاف حول هذه المادة القانونية الدولية، انتهجت الدول
الكبيرة سياسة "التأثير غير المباشر" على الدول الصغيرة المجاورة لعدوها،
مع العمل على تحصين الدول الصغيرة المجاورة لها من تأثير القوى المعادية لها، وهو
الحل الأنسب بعد تحريم القانون الدولي "التوسع الجغرافي".
***
بالمقارنة بين تأثير الأمريكان على دول الجوار السوفييتي
وتأثير الروس على دول الجوار الأمريكي أثناء حربهم الباردة، في ظل حماية القانون
الدولي لجميع الدول الصغيرة في الجوار الروسي والأمريكي على السواء في حق اختيار
التوجهات السياسية الداخلية والخارجية، انتشرت الشيوعية في دول حوض الكاريبي جنوب
الولايات المتحدة الأمريكية 1982م، وخاصة في فنزويلا وكوبا، حيث اضطرت واشنطن وقتها
للالتفاف على القانون الدولي الذي منعها من محاربة الشيوعية في دول جوارها الجنوبي
طبقاً لشرعية قرارات كوبا وفنزويلا السيادية في التحالف مع الاتحاد السوفييتي.
هنا بدأت واشنطن بالترويج لنظرية "الأمن الإقليمي"،
وهو مصطلح له العديد من التفسيرات، أهمها أن كل مجموعة دول مستقلة تقع ضمن نطاق
جغرافي طبيعي واحد، تكون قراراتها السيادية مستقلة ضمن حدود عدم المساس بأمن بقية
الدول الواقعة معها في نفس البقعة الجغرافية، أي الالتزام بالأمن القومي لجميع دول
الإقليم الجغرافي.
***
بعد أن منحت أمريكا لخارجيتها حق التدخل في شؤون جوارها
الإقليمي لطرد الشيوعية السوفييتية، انتشر مفهوم الأمن الإقليمي في جميع أنحاء
العالم، وهو المفهوم الذي تصادم مع قانون سيادة الدولة على الساحة السياسية أكثر
منها القانونية.
الأمن الإقليمي قام على مبدأ التجاذبات السياسية أو القوة
العسكرية أمام دول الجوار الإقليمي لفرض نفوذها القومي وإثارة الهيبة السياسية على
الشعوب المجاورة أكثر منها على الحكومات.
وهو ما فعلته أمريكا التي فرضت هيبتها السياسية على بعض الدول
المجاورة لها في الجنوب الكاريبي، بينما ما تفعله روسيا اليوم هو فرض هيبتها
العسكرية في جوارها وخاصة في أوكرانيا.
***
أول من عمل على عسكرة الأمن الإقليمي هو صدام حسين؛ فوفق
منظور القانون الدولي (وبعيداً جداً) عن الأسباب السياسية للاحتلال العراقي لدولة
الكويت، ما حدث كان أشبه بمغامرة سياسية لقياس مدى العلاقة بين قانون سيادة الدولة
المطلقة وأمنها الإقليمي في القوانين الدولية.
منظرو القانون الدولي ومشرعوه، كانوا ينظرون إلى أن تحرير
الكويت مؤشر على انتصار سيادة الدولة المطلقة على منظومة الأمن الإقليمي، بينما انتصار
العراق كان مؤشراً على تقنين حق تدخل الدول الكبيرة بشؤون الدول المجاورة للحفاظ
على الأمن الإقليمي.
على الرغم أن منظومة الأمن الإقليمي شرّعها الأمريكان، إلا
أنهم ليسوا بحاجة لعسكرتها كما فعل صدام حسين، والأغلب أن الروس هم من كان بحاجة
لتجربة احتلال الكويت لفهم شروحات القوانين الدولية قبل تفكك الاتحاد السوفييتي
وتحوله لإقليم مكون من 15 جمهورية مستقلة.
***
إن إصرار أمريكا على تحرير الكويت أكثر من التزامها بتنقية
جوارها الإقليمي من الشيوعيية السوفييتية، هو ما جعل فروقاً عدة بين مصطلحي "سيادة
الدولة" و"الأمن الإقليمي".
بمعنى أن تحرير "سيادة الكويت" كان لزاماً على
المجتمع الدولي، بينما تحرير "الأمن الإقليمي" مصطلح فضفاض غير مقنن، ليبقى
محصوراً بالفلسفة القانونية وفق العلاقات السياسية دون ترقيته لمستوى قانونية سيادة
الدولة.
يمكن القول أن مصطلح سيادة الدولة هو قانون ثابت غير مرن،
له تعريف واحد وواضح، ولا يحتمل أكثر من تفسير، بينما مصطلح الأمن الإقليمي مرن
غير ثابت كقانون، وله العديد من المفاهيم المختلف عليها.
إذاً؛ سيادة الدولة قانون دولي له نصوصه القانونية، والأمن
الإقليمي سياسة إقليمية مرهونة بالعلاقات الدولية والأدبيات القانونية.
***
لاشك أن العراق أربك منظومة القانون الدولي، وإن انتصرت
أمريكا في حرب تحرير الكويت التي أعادت لقانون سيادة الدولة هيبتها من جديد على
المنصات الدولية.
ولكن مع انهيار الإتحاد السوفييتي وولادة منظومة إقليمية
جديدة، وخوفاً من تربع روسيا على عرش الإقليم الجديد عبر التأثير على سيادة هذه
الجمهوريات بحجة الأمن الإقليمي، اضطرت واشنطن وحلفاؤها في الغرب للانتقال إلى
مرحلة جديدة، وهي الأمن والسلم الدوليين.
حيث أصبح المجتمع الدولي أمام ثلاث قواعد أو محاور قانونية
دولية، الأولى: سيادة الدولة المطلقة في قراراتها الداخلية وسياستها الخارجية،
والثانية: سيادة الدولة المطلقة في قراراتها الداخلية مع تقييد سياستها الخارجية
وفق متطلبات الأمن الإقليمي.
بينما الثالثة "الأمن والسلم الدوليين" عملت على
تقييد سيادة الدولة في قراراتها الداخلية وسياستها الخارجية معاً وفق متطلبات
الأمن والسلم العالميين الذي ترعاه أمريكا فقط.
***
لفرض هيبة المرحلة الثالثة وهي الأمن والسلم الدوليين، كان
لابد من ربط بعض الملفات الإقليمية بالأمن والسلم العالميين تحت الرعاية الأمريكية
أحادية القطب بعد انهيار غريمها الاتحاد السوفييتي.
ومن أهم هذه الملفات، الرعاية الأمريكية لتوقيع اتفاق
أوسلو وتحرير جنوب إفريقيا من الفصل العنصري بعد الضغط الشديد الذي مارسته واشنطن
على إسرائيل وجنوب إفريقيا.
كما عملت أمريكا بعد تفجير برجي التجارة على تدويل بعض المصطلحات
كالأمن والسلم والإرهاب والجريمة وغسل الأموال وتجارة البشر وعمالة الأطفال وحقوق
الإنسان.
لا شك أن منظومة الأمن والسلم العالميين وضعت قوانين صارمة
استفادت منها الشعوب أكثر من الحكومات في جميع انحاء العالم، إلا أنها قيدت سيادة
الدولة القُطرية وربطت الكثير من القوانين الداخلية بالقانون الدولي تحت الرقابة
الأمريكية.
***
هنا يمكن القول أن ما تفعله أمريكا اليوم في أوكرانيا هو
ما فعله الاتحاد السوفييتي في كوبا وفنزويلا الأمس؛ فأوكرانيا تبنت الليبرالية
الأمريكية من خلال سيادتها المطلقة في علاقاتها مع أمريكا، كما فعلت كوبا وفنزويلا
اللتان انتهجتا الشيوعيية السوفييتية من خلال سيادتهما المطلقة في علاقاتهما مع
الروس في الثمانينيات.
كما وأن رفض روسيا لانتشار الليبرالية في أوكرانيا خوفاً
على الأمن القومي الشيوعي في منطقتها، هو تماماً كرفض أمريكا تغلغل الشيوعية
السوفييتية في كوبا وفنزويلا خوفاً على الأمن القومي الليبرالي في الجوار
الأمريكي.
أو يمكن القول أن الرئيس الروسي بوتين هو النسخة الثانية للراحل
صدام حسين، وكلاهما أبناء المؤسسة السوفييتية الشيوعية التي تكمن رؤيتها في فرض
منظومة قانون دولي جديد تنطلق من تقنين فرض الوصاية العسكرية للدولة الراعية للأمن
الإقليمي على جميع الدول المجاورة لها بحجة تحريرها من الإمبريالية الأمريكية.
الفرق بين أمريكا وروسيا أن الأولى تنطلق من محورين مقننين وهما سيادة الدولة والأمن الدولي، بينما تنطلق روسيا من محور سياسي ليس مقنناً وهو الأمن الإقليمي، وما يجب أن يدركه الروس أن فشل أمريكا في تنظيف كوبا وفنزويلا من الشيوعية هو مصير روسيا بالفشل في تنظيف أوكرانيا من الليبرالية.
تعليقات
إرسال تعليق